30‏/09‏/2010


معد فياض

رئيس حكومة إقليم كردستان في مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: من دون المكون السني تبقى المعادلة ناقصة

كيف لمسؤول حكومي بمنصب نائب رئيس وزراء العراق السابق، مثل برهم صالح، أن يعمل بلا صلاحيات محددة ومنصوص عليها قانونيا؟ كيف له أن يتحرك في مساحة وهمية؟ هذا ما يتحدث عنه في هذه الحلقة، مشخصا مسألة غاية في الأهمية تتعلق بمسألة الشراكة الحقيقية في الحكم، وأثرها على مجمل الأوضاع السياسية والأمنية في البلد، يقول: «لكن من دون المكون السني تبقى المعادلة ناقصة، وأحد أسباب الانهيار الأمني في الوضع العراقي هو غياب المشاركة السنية، ووجود قيادات حسبت خطأ على السنة مما أدى إلى وضع المكون السني العربي في زاوية حرجة وإبعادهم عن العمل السياسي وعدم مشاركتهم وقبولهم لهذا الوضع الجديد في البلد، الذي نتج عن سقوط النظام، وبغياب المكون العربي السني لا تكتمل المعادلة ولن يكتمل استقرار العراق، وما نعيشه من إرهاصات في الوضع الأمني والسياسي يعكس إلى حد كبير عدم مشاركة هذا المكون بشكل يضمن المشاركة الحقيقية للمكونات الحقيقية للشعب العراقي».


وبسؤاله عن الأسباب التي تدفع بالحزبين الكرديين اللذين يحملان الأفكار التقدمية للتحالف مع أحزاب راديكالية، إسلامية، طائفية، يقول صالح: «الحزبان الكرديان الرئيسيان من الأحزاب المدنية لكنها تجتمع في مشتركات مع الأحزاب الإسلامية الشيعية منذ المعارضة، وأيضا من حيث ضمان النظام الدستوري الجديد في العراق»، ويستدرك قائلا: «الأكراد سنة شوافع، والمجتمع الكردي يحترم الدين ولا خلاف في ذلك، ولكن ليست هناك طائفية سياسية في المجتمع الكردي، والمسألة الطائفية لا تؤثر في ذلك. نحن ننظر إلى الواقع العراقي من منظار سياسي، والقوى السياسية الكردية تبنت النظام الدستوري الاتحادي. والذين يشتركون معهم في هذا التوجه هم المتحالفون معهم، هناك قوى تريد إرجاع العراق إلى النظام الشمولي الاستبدادي»، مشددا على أن «الكرد لن يستطيعوا ولن يريدوا تقسيم العراق، فغالبية القيادات السياسية الكردية ترى مصلحتها ومصلحة الشعب الكردي ضمن عراق ديمقراطي اتحادي، لكن عرب العراق إن لم يحلوا مشكلاتهم فسوف تنجم مشكلات - لا قدر الله - قد تخلق حالات مؤسفة».
يعود برهم صالح في حكومة المالكي نائبا لرئيس الوزراء، لكنه هذه المرة نائب بلا صلاحيات محددة، يشغل منصبا عائما، له تعريف إعلامي أكثر مما هو سياسي، يقول: «هذه الحكومة (حكومة المالكي) بنيت على توازنات سياسية دقيقة، حيث برز الائتلاف العراقي كقوة سياسية أفرزت المالكي رئيسا للحكومة وكان هناك صراع قوي على كيفية توزيع الصلاحيات، ليس فقط مع المالكي وإنما مع التشكيلات السياسية الموجودة، وموضوع الصلاحيات لم يحسم، بل بقي إلى حد كبير محكوما بعلاقة رئيس الوزراء بنوابه أكثر مما هو الجانب القانوني المنظم في إطار الحكومة، كان مجلس الوزراء مبنيا على توازنات سياسية دقيقة وكان مكبلا بهذه التوازنات، وكانت هناك دائما شكوى من كيفية توزيع الصلاحيات من رئيس الوزراء إلى نوابه وإلى الوزراء، وكنا نتحمل وزر معادلة سياسية صعبة».
ويعبر عما كان يتمناه ويعمل من أجله، قائلا: «كنت أتمنى على هذه الحكومة التي كنت جزءا منها، أن تكون مبنية على أساس إشراك أوسع للآخرين في الجانبين السياسي والأمني، وألا تتحول إلى جزر سياسية منفصلة عن بعضها بسبب التجاذبات السياسية التي حصلت في هذه الحكومة». ويتحدث عن جزء من معاناته كمسؤول حكومي، ويشغل منصب نائب رئيس الحكومة العراقية من غير أن يتمتع بصلاحيات محددة ومكتوبة ومنصوص عليها قانونيا ويقول: «كنت دائما أكتب إلى رئيس الوزراء، نوري المالكي، وبعد أن ننجز موضوعا معينا (بناء على الصلاحيات غير الممنوحة لنا قررنا ما هو آت)، فإذا كانت القرارات مناسبة وجيدة يوافق عليها».
ويشدد صالح على أنه لم يتعامل طوال فترة إشغاله لمنصبه الحكومي الرفيع مع الأمور بصيغة سياسية بل بمهنية بحتة، يقول: «أرجو أن يشهد لي المالكي والوزراء بأنني لم أتعامل من منطلق سياسي، بل من منطلق مهني لخدمة الوطن ومن مشروع الحكومة لخدمة كل البلد، ولم أتردد في إبداء مواقفي له واختلفت مع المالكي في مواقف ليست بالقليلة وتقبل مني ذلك».
وعلى الرغم من عدم تمتع صالح بصلاحيات واضحة، فإنه أقدم على إنجازات مهمة، ويقول: «أنا كنت أتمنى أن أتمتع بصلاحيات أكبر ليتسنى لي تقديم خدمات أكثر للبلد وللعراقيين، لكن العمل السياسي لا يقاس هكذا فما توفرت لي من فرصة كانت فريدة حيث كنت في مركز الأحداث وفي مجلس الوزراء، ففي الحكومتين الأولى والثالثة كنت نائبا لرئيس الوزراء وتسلمت ملفات مهمة أتمنى أن أكون نجحت في مهامي»، منوها بأن «الطموح كان أكبر، لكن العمل السياسي في بلد كالعراق يكبلنا بمحددات ومقيدات».
ولم تحد كردية صالح من إخلاصه في عمله من أجل العراق ككل، ويوضح «حاولت أن أتجاوز ثنائية كوني كرديا وعراقيا في آن واحد، وكنت دائما أقول: أنا كردي وأعتز بكرديتي، لكنني مؤمن إيمانا عميقا بمشروع وطني عراقي ديمقراطي، ولم أجد أي انفصال في عملي لكوني كرديا أعمل في خدمة كردستان وفي ذات الوقت التفاني من أجل خدمة المشروع الوطني العراقي، إذ أرى فيهما مشروعين متلازمين ومتكاملين ولا انفصال أو تباين بينهما، وهذا ناتج عن قناعة فكرية مفادها أن العراق الديمقراطي الاتحادي هو الذي سيوفر للكرد ضمانات بعدم تكرار المآسي التي حصلت في الماضي وسيوفر الفرصة للكرد لحياة كريمة ومستقرة إلى جانب بقية أبناء الشعب العراقي، ومن هنا تتلازم مصالح أهالي السليمانية وأهالي البصرة، وأربيل والأنبار ودهوك والموصل، وبقية محافظات العراق حقيقة، ونحن نعيش مع إخواننا العرب في الوطن الواحد ولم أر في يوم من الأيام أي إشكالية في هذا الموضوع».
مع كل هذا، هناك من يرى أن برهم عمل لصالح إقليم كردستان من خلال موقعه في الحكومة الاتحادية ويعلق قائلا: «هذا التقييم متروك للمراقبين السياسيين وللجمهور. وكنت - وما زلت - أعتقد أن النظرة الشاملة الصحيحة هي أن خدمة إقليم كردستان لا تنفصل عن خدمة باقي المحافظات والأقاليم في العراق، إذ يفترض أن المشروع الوطني الديمقراطي الفيدرالي العراقي يوفر الغطاء لأي جهد حكومي أو برلماني وبالتالي فلا انفصام بين أجزاء هذه العملية السياسية سواء في بغداد أو في كردستان أو في البصرة. إنني مؤمن بالمشروع الوطني الديمقراطي العراقي وأعمل في سبيل إنجاحه أينما كنت، وهو السبيل لنهوض العراق، كل العراق، بكردستانه ووسطه وجنوبه. نهوض بغداد، نهوض لكردستان وحماية له، والعكس بالعكس، وإن شاء الله هناك من المنصفين من يشهد بأنني عملت وفق هذا المبدأ وبأمانة في أي ملف توليته».
ويكشف صالح، خلال مسؤوليته كنائب لرئيس الحكومة الاتحادية، عن لقائه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في سجنه. لنتصور طبيعة هذا اللقاء بين الضحية والجلاد، فالشعب الكردي وعلى مدى ثلاثة عقود من حكم البعث في العراق، وتحت سلطة صدام حسين كان ضحية التسلط والتعسف وعانى من القتل والتهجير، بل إن صالح ذاته عانى من الاعتقال والتعذيب وكاد يفقد حياته، هنا، في هذا اللقاء سنرى كيف تعامل الضحية صالح مع جلاده، صدام حسين، بمشاعر إنسانية نبيلة على الرغم من أنه كان نائبا لرئيس حكومة تعامل غالبية أعضائها بروح ثأرية وانتقامية مع رئيس النظام السابق، ويقول صالح: «التقيت صدام حسين عندما كان سجينا لدى القوات الأميركية، ذهبت إليه في زنزانته في السجن عندما كنت نائبا لرئيس الوزراء في حكومة علاوي، وكان معي فلاح النقيب، وزير الداخلية الأسبق، كان اللقاء قصيرا، وأنا ذهبت في مهمة التأكد من الظروف الصحية والحياتية والقانونية التي يعيشها صدام، فعلى الرغم من موقفي المعارض له، وعلى الرغم مما قام به ضد الأكراد خاصة، والعراقيين عامة فإنه كان سجينا والواجب الأخلاقي والإنساني يفرض علينا الاطمئنان عليه، ولم يدر حديث طويل بيننا، سوى أنه تعرف على الأخ فلاح لأنه كان يعرف والده، فقال لفلاح: أنت شبت، كنت قد رأيتك صغيرا، فرد عليه النقيب قائلا: شبنا من وراكم (بسببكم)، ولم نرغب، لا فلاح ولا أنا، أن ندخل معه في حديث طويل، فقلت له نحن هنا ليس للجدال بل للاطمئنان على أن الإجراءات القانونية على ما يرام، وخرجنا»، موضحا أن «التشفي ليس من شيمنا وليس من أخلاقنا، وهذه أحد الفروق بيننا وبينه، حتى أنني لم أرد أن أشعره بأنه سجين وأسير ونحن الآن في موقع السلطة والقوة. وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي التقيت فيها صدام حسين».
وكان الموقف الأكثر، ربما، ألما بالنسبة لصالح هو لقاؤه أكثر الأشخاص الذين نكلوا بالأكراد، علي حسن المجيد، الذي لقب بـ(علي كيمياوي) جراء إعطائه الأوامر للقوات العراقية بقصف القرى الكردية بالأسلحة الكيمياوية، ومع ذلك لم يتصرف صالح إلا انطلاقا من مشاعره الإنسانية، يقول: «كما التقيت علي حسن المجيد وهاشم سلطان وبرزان التكريتي ومجموعة من أقطاب النظام السابق».
يصمت صالح قليلا، يسرح نظره بعيدا باتجاه الجبال التي تحيط بمدينة السليمانية، راح يتأمل، ربما راح يتذكر معتقله بكركوك، أو رصد عبر الزمن مدينة حلبجة غير البعيدة عن مركز السليمانية، تلك المدينة التي تم قصفها وتدميرها بالأسلحة الكيمياوية، ثم قال: «انتابني شعور غريب وأنا التقي صدام، فأنا كنت مسجونا في أحد سجونه وتعذبت، وهو ارتكب جرائم فظيعة بحق العراقيين من العرب والأكراد، خاصة في مجازر الأنفال وفي حلبجة، ولقي جزاء عادلا، لكن أملي أن هذا الجزاء لم يكن بدافع الانتقام، وكنت أتمنى أن تنفذ عقوبة الإعدام بشكل آخر وليس بطريقة تفهم على أنها انتقام وثأرية. هذا ما يهمني. وبرأيي أن طريقة وأسلوب إعدامه أساءت إلى ضحاياه، على الرغم من أن الغالبية العظمى من العراقيين تنفسوا الصعداء بسبب انتهاء النظام السابق»، من دون أن ينسى أن «السنوات الماضية، ومنذ سقوط نظام صدام حسين، كانت حافلة بالتحديات والمشكلات والمآسي، بل والكوارث أيضا، ولا أريد أن أستخف بما تحملناه وما تحمله الشعب العراقي خلال هذه السنوات من مشكلات، لكن لا يمكن أن نقارن آلامنا ومشكلاتنا خلال هذه السنوات بما عانيناه من كوارث ومآس واضطهاد وقمع ومقابر جماعية وأسلحة كيماوية وسياسة تمييز طائفي وقومي وإلى غير ذلك من الكوارث التي عانينا منها على مدى الـ(35) عاما، ويجب أن نقيم المرحلة كما هي وفي سياقها التاريخي الصحيح، لنا أن نتفق ونقر بانتكاسات ومشكلات خلال السنوات الماضية، لكن ما حدث في النهاية مهم جدا، بل وحدث كبير أعطانا الفرصة نحن العراقيين للتخلص من الاستبداد والشروع في بناء بلد آمن وعراق ديمقراطي آمن مع نفسه وآمن مع جيرانه إن شاء الله». ويشخص السياسي صالح حالة في غاية الأهمية، فليس المهم هو التخلص من نظام استبدادي وحسب، فالاستبداد يمكن أن يعود بأوجه مختلفة، ويقول: «في غياب الضمانات القانونية والدستورية والبرلمانية، أي شخص في أي موقع مسؤولية معرض إلى أن يتلوث بالاستبداد ويتعامل بالاستبداد، هناك مقولة مشهورة (السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد بالمطلق)، في غياب المساءلة، في غياب الرقابة وفي غياب الضمانات القانونية، الاستبداد وارد، فلذلك دعنا لا نقول: انتهى الاستبداد بصدام حسين، إن لم نعمل على ترسيخ مؤسسات الحكم الديمقراطي والرقابة البرلمانية واستقلالية القضاء واستقلالية الإعلام وحياديته، فمن الطبيعي أن نتصور ونتوقع أن يظهر الاستبداد مجددا في العراق، وإذا نظرنا إلى تاريخ هذا البلد فسنجد أن صدام حسين كان مستبدا من طراز مخيف واستثنائي، لكن هناك الكثير من النماذج الاستبدادية في تاريخنا، لا يمكن لنا، ونحن الذين عشنا مرحلة الاستبداد وعشنا مرحلة المقابر الجماعية والأسلحة الكيمياوية وحرب الإبادة، إلا أن يكون الهاجس الكبير أمامنا هو يجب ألا نتيح المجال أبدا لعودة الاستبداد، وهذا لن يتم من خلال الأمنيات والرؤى الطيبة فقط، وإنما نتمكن منه من خلال ترسيخ مؤسسات الحكم الديمقراطية ومؤسسات البرلمان وتمكين المواطن العراقي قانونيا ودستوريا من أداء دوره لكي يكون ضامنا ألا يرجع الاستبداد وألا يساء إلى إدارة بلده».
ويوضح صالح خللا مهما، مفاده أنه «كان هناك نوع من الاعتماد المفرد على ما ستقوم به الولايات المتحدة ليس فقط من حيث إسقاط النظام لكن من حيث إعادة البناء، وكان هذا خللا كبيرا وربما هذه التجربة وهذه السنوات التي مرت، فإذا ذهبنا إلى أصول المشكلة التي نعاني منها اليوم وهي غياب مشروع وطني عراقي قائم على أساس الإرادة العراقية، نعم التفاهم مع الولايات المتحدة، التواصل مع الأميركان، ومع البريطانيين، أو مع الأوروبيين بصورة عامة، ومع دول الجوار، ومع القوى الخارجية، كلها مهمة، نحن نعيش في عالم متداخل ومتشعب لكن غياب الرؤية العراقية المتفق عليها على الأقل في هامش وطني يستطيع أن يجمعنا، في تقديري كان مشكلة كبيرة ولا تزال».
وبكثير من الصراحة يتحدث صالح عن الخلافات بين الأكراد والحكومة المركزية (الفيدرالية) ببغداد، قائلا: «هناك تعقيدات في هذا المجال ولا شك أن موروثات من الشك والقرار المسبق تلقي بظلالها على الخلافات التي هي خلافات جدية تتعلق ببنية الدولة الاتحادية وبآليات التعاطي مع الدستور وتطبيقاته في ملفات الحدود الإدارية والثروة والشراكة السياسية. هناك إرث من الثقافة المركزية من العهود السابقة ينخر في مفاصل الدولة العراقية. نحن متفقون على أن يكون الدستور مرجعا للحل ويبقى هامش الاختلاف واردا بسبب تفسيرات الدستور وتطبيقه وبسبب اختلاف الأولويات. ولكن الحوار والتعاطي البناء هو السبيل الوحيدة لتنقية الأجواء ثم الوصول إلى حلول توافقية لا بد منها. وبعد فترة القطيعة فإن المعطيات الجديدة يمكن أن تشكل فرصة طيبة للتلاقي والحوار والوصول إلى حلول مشتركة. إن هناك من يروج لعداء كردي عربي كوسيلة للتغطية على مشاريع الاستئثار والإقصاء. الكرد ليسوا خطرا على العراق، الكرد هم بناة العراق الجديد، ولهم مصلحة حقيقية في بناء عراق قائم على أساس احترام الأكثرية والتوافق بين مكوناته».
ولا يتردد صالح في الإقرار بأن المسؤولية تضامنية في الإخفاقات والإنجازات، ويقول: «أنا كنت ضمن منظومة الحكومة الاتحادية. أعتقد أن المسؤولية تضامنية سواء لجهة المنجز أو لجهة الإخفاقات. هناك منجزات كثيرة تحققت يمكن أن تشكل قاعدة صلبة لإطلاق الجهود في الإصلاح والتطوير. كما هناك تحديات لا يستهان بها تواجهنا في الفترة المقبلة على الصعد كافة. الدرس البليغ من التجربة الحالية، أن العراق بحاجة إلى حكومة أكثر تجانسا وانسجاما ورفض المحاصصة، على الأقل في ما يتعلق بمفاصل خدمية واقتصادية حيوية. الانتخابات المقبلة ستكون حسما وأتمنى أن تؤدي إلى حكومة منسجمة ومتفقة على برنامج واضح وصريح لخدمة المواطن، حكومة ترفض نهج الاستئثار والإقصاء، وترفض أيضا هذا النمط من المحاصصة التي كانت أشبه بتقاسم السلطة الذي بات معرقلا للقرارات المطلوبة للتعاطي مع التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية».
ومع ذلك، يعبر صالح عن تفاؤله بقوله: «أرى المستقبل واعدا، ليس للعراق من خيار إلا أن ينجح، وأنا أقول إن إرهاصات السنوات السبع الماضية ومشكلاتها تملي علينا وتدفعنا باتجاه النجاح، لا يمكننا أن نقبل بالفشل على الرغم من أنها مليئة بالتحديات والمشكلات لكنني واثق أن مستقبل هذا البلد واعد وسيوفر للعراقيين وللمنطقة نموذجا جيدا إن شاء الله».
ولعل أبرز ما حققه صالح من خلال موقعه في الحكومة الاتحادية، هو إطلاق مبادرة العهد الدولي التي هي ميثاق للالتزامات المتبادلة بين العراق والمجتمع الدولي لمساعدة العراق في الإيفاء بالتزاماته في بناء عراق ديمقراطي اتحادي مزدهر آمن مع نفسه ومع محيطه الإقليمي والدولي، كما أن له مبادرات في رعاية ودعم الجامعات العراقية، خاصة من خلال تأسيسه ورعايته لمشروعي (واعدون) الذي يدعم الطلبة العرب في الجامعات العراقية ماديا ومعنويا، ومشروعه (هيوا)، ويعني بالكردية الأمل، الخاص بدعم طلبة الجامعات الكردية، وتوطيد علاقاته مع المثقفين العراقيين من خلال تأسيسه ورئاسته لهيئة أمناء الملتقى العراقي، كما تعود لجهوده، الفضل الأول والأخير في إعادة إعمار شارع المتنبي ببغداد بعد أن تم تدميره في حادث تفجير إرهابي فظيع أدى إلى مقتل العشرات وحرق مكتباته التاريخية وهدم أبنيته التراثية.



ويزيد، صالح، مستشهدا بأحداث واقعية، قائلا: «خلال زياراتي للمحافظات العراقية، إنصافا أقول، لم أشعر بأي تغيير أو أي شيء سوى أنني بين أهلي، ربما شعرت بأن بعض النخب السياسية العراقية تنظر إلى بعين الشك، كوني كرديا أو انفصاليا لأنني أتعاطى مع الملف الكردي، لكن عامة العراقيين احتضنوني وتعاملوا معي كأي عراقي ولم أشعر في يوم من الأيام بغربة في بغداد، بل أشعروني بأنني واحد منهم وأنا ممتن لهم».
برهم صالح الذي دشن حياته وعمله السياسي عراقيا في العاصمة بغداد، باعتباره نائبا لرئيس الحكومة الأسبق إياد علاوي، وأحب هذه المدينة وتفاعل معها، لم يكن في سنوات فتوته قد اكتشف جيدا هذه المدينة الكبيرة وتقاطعاتها، يقول: «كنا نذهب إلى بغداد مع العائلة في الإجازات إضافة إلى زياراتي إلى سجن أبو غريب ومتابعة بعض النشاطات الحزبية، مثلما ذكرت. لكن أول مرة ذهبت فيها إلى بغداد مع والدي ووالدتي كان عمري 12 سنة، وأتذكر أن والدتي أخذتني معها في مشوار تسوق في شارع النهر، سوق تقع بجانب الرصافة من بغداد مخصصة لبيع الملابس النسائية والمجوهرات، وكانت والدتي تدخل من محل إلى آخر وأنا أسألها متى نعود إلى الفندق حتى نتغدى»، وبمناسبة حديثه عن الطعام يتذكر مطعم «كهف الدجاج» الذي كان قرب الجندي المجهول السابق (ساحة الفردوس حاليا) وتنزهنا في متنزه الزوراء، ونادي مدينة الضباط في زيونة، متغزلا ببغداد بقوله: «بغداد مدينة كبيرة وجميلة وعاصمة رائعة، أنا أعشق نهرها، دجلة، وكنت أحب حدائقها ومتنزهاتها والمساحات الخضراء فيها، ولو أن هذه المساحات تعرضت خلال السنوات الأخيرة إلى انتكاسات كبيرة، بغداد مدينة جميلة بكل ما تعني الكلمة وخاصة معمارها القديم رائع جدا، لم أر عاصمة بجمالها أو لها قدرة على التطور مثلها. في السنوات الخمس التي أمضيتها ببغداد أعجبت بروح أهلها على المقاومة وحبهم لمدينتهم على الرغم من التفجيرات وانحسار الخدمات، هذا الحب الذي لم تجده في أي مدينة ولو تعرضت أي مدينة أخرى في العالم لما تعرض له البغداديون لتركوها، والأهم بالنسبة لي أن بغداد احتضنتني بحب ولم أشعر فيها بغربة ولو للحظة واحدة، وناسها طيبون للغاية».
ويضيف صالح قائلا: «على الرغم من أنني عشت في بغداد خلال فترة عصيبة، تفجيرات وأوضاع أمنية وسياسية صعبة وكانت المحددات الأمنية تمنعني من التجوال بحريتي في هذه المدينة التي أصبحت حزينة، فإنني كنت أتجول بين الناس وأتحدث معهم، فأنا أرى بغداد المدينة التاريخية الحضارية الرائعة، والأهم من هذا، عشت الجانب الإنساني لهذه المدينة القوية بأهلها، إذ لا أعتقد أن هناك مدينة يمكن أن تتحمل ما تحملته بغداد في التاريخ الراهن ومنذ العنف والاستبداد في زمن صدام مرورا بالحصار الاقتصادي ومن ثم الاستباحة التي عاشتها خلال وبعد سقوط النظام السابق والإرهاب الذي يضربها».
برهم صالح لم يكن غريبا عن الساحة السياسية العراقية، فهو وإن كان منشغلا بالوضع السياسي الكردي إلا أنه كان - وما زال - يعتبر أن هذا الانشغال هو جزء من الهم السياسي العراقي، يقول: «كنت منشغلا في الساحة السياسية العراقية منذ الثمانينات وذلك من خلال المعارضة، إذ كنت ناشطا في العمل الوطني العراقي، وحتى في كردستان كان الشأن العراقي هو شاغلنا، وبعد 2003 تعرف العراقيون علي بحكم عملي في الحكومة، ولا أدري إن كان ذلك ظهورا مفاجئا أم لا»، منبها إلى أن «المصاعب كانت كثيرة خلال عملي في بغداد، إذ لم يمر يوم إلا وعشنا فيه حالة من التحدي، تحدي الإرهاب والفساد المالي والإداري، كنا نعيش الأزمة تلو الأخرى، ومن أكثر أيامي صعوبة كان يوم تفجير المرقد العسكري في سامراء والأحداث التي تلتها، إذ كنت جزءا من الحكومة وشاهدت وعشت مجريات تلك الأيام الصعبة، شعرت في مرات متفرقة بحالة من اليأس بسبب النشاط الإرهابي وضعف الإمكانيات الأمنية، كانت أياما عصيبة»، مشخصا أن أصعب فترة عاشها في حكومات بغداد قائلا: «كانت أياما صعبة بالفعل، خاصة في حكومة علاوي حيث إمكانيات الدولة محدودة على الرغم من أننا كنا فريقا منسجما وجيدا جدا، وكنا نجتاز المحن بتضافر الجهود».
في عام 2009 خاض التحالف الكردستاني، الذي يضم الحزبين الكرديين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، والاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة جلال طالباني، رئيس جمهورية العراق، الانتخابات التشريعية في الإقليم، ورشح برهم صالح لرئاسة القائمة الانتخابية للتحالف، حيث عمل وقتذاك جاهدا لإقناع الناخبين ببرنامجه، أو برنامج القائمة الانتخابي، وزار من أجل ذلك قرى وقصبات ومدن كردستان، وتجول بين أسواقها ودخل بيوتها، محققا شعبية واسعة مكنت القائمة من الفوز بأغلبية مريحة، بينما حقق بارزاني فوزا كبيرا على منافسيه لرئاسة الإقليم.
يتحدث صالح عن هذه الانتخابات، قائلا: «الانتخابات التشريعية الأخيرة لإقليم كردستان شكلت نقطة تحول في التجربة الديمقراطية الكردستانية سواء من ناحية تفاصيل التنافس الانتخابي إلى البرامج والرؤى المختلفة للقوائم المتنافسة ومنها القائمة الكردستانية التي واجهتها تحديات تتعلق بالمحافظة على المكتسبات التي تحققت للأكراد والتي تم إنجازها على يد الحزبين الحليفين (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني)، وطرح برنامج إصلاحي يتعهد بمعالجة مكامن الخلل في إدارة الإقليم ومحاربة الفساد وتحسين مستوى الخدمات»، موضحا أن «رؤية القائمة الكردستانية ركزت على أهمية المحافظة على المكتسبات وعدم إغفال الإخفاقات في مجال الفساد الإداري والتصدي المتعقل لها عن طريق حزمة تشريعات وقوانين ومراجعة الهياكل والسياقات الإدارية، وبغض النظر عن حجم توقعاتنا فإن تأييد 70 في المائة من الناخبين للسيد مسعود بارزاني ونسبة 59 في المائة للقائمة الكردستانية هو نجاح متميز في أي ديمقراطية حقيقية، وفي ظل تنافس محتدم مثل الذي جرى في كردستان. ونحن نفتخر بنجاح العملية الانتخابية وبالتطور الديمقراطي الذي أفضى إلى مثل هذا الجو الديمقراطي في التنافس بين القوائم المختلفة، مثلما نفتخر بفوزنا بها. فالمنجز الانتخابي وهذا التحول النوعي في الوضع الديمقراطي في الإقليم أهم من المكسب الحزبي. إن تقييمي يتلخص في أن الانتخابات أكدت تأييد الثقة بالحزبين مقرونة بمطالبة الناخب بإجراء إصلاحات سياسية وإدارية، ولا شك أن تشكيلة البرلمان الكردستاني الحالي مختلفة عن سابقاتها لوجود معارضة فيه. أملي أن تكون هذه المعارضة إيجابية وتتواصل معنا من أجل إنجاز الإصلاحات المنشودة».

---------

الحلقات السابقة:

(الحلقة الأولى)

(الحلقة الثانية)

(الحلقة الثالثة)

(الحلقة الرابعة)

(الحلقة الخامسة)


معد فياض

نائب رئيس الوزراء العراقي يروي مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: طالباني مصدر قوتنا .. واختلفت معه كثيرا دون أن يفسد ذلك الود بيننا

يُكلف برهم صالح عام 1991 ومن قبل زعيم حزبه، الاتحاد الوطني الكردستاني، برئاسة حكومة كردستان في السليمانية في ظل أوضاع معقدة، حيث الاقتتال الداخلي بين حزبه والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، والصراعات الداخلية بين أقطاب حزبه، وسيادة أوضاع اقتصادية صعبة، وهو القادم من أوروبا ولا ينتمي إلى ثقافة هذه الصراعات والمشكلات التي نشأت خلال دراسته وعمله في الخارج.


يتحدث عن الأوضاع التي كانت سائدة آنذاك، قائلا: «في ظل ظروف صعبة للغاية وشح الإمكانات المادية تمكنّا من إجراء إصلاحات مهمة، أبرزها تحسين حال الرواتب، وتوسيع الإعمار والبناء، وإنشاء مطار السليمانية ومشاريع كبيرة أخرى، وأنا أعتز بهذه الفترة على الرغم من مصاعبها، فإن خدمة الناس بالنسبة لي واجب مقدس».
وبينما كانت هناك شخصيات قيادية في كلا الحزبين المتقاتلين، أو المختلفين، تصب الزيت على نار الخلافات، وتمعن في إشعال نار الاقتتال، فإن صالح كان يجري على العكس من تيار تلك القيادات، ويناضل من أجل سلام كردستان حقنا لدماء شعبه بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، سواء كانوا من هذا الحزب أو ذاك، أو من هذه المدينة أو تلك، فأخذ مهمة رجل إطفاء الحرائق التي أشعلها غيره، أو التي اشتعلت في غيابه ولم يكن هو سببا في شحذ شرارتها. يوضح قائلا: «من أبرز ما عملت من أجله في هذه الفترة هي عملية التقريب بين الحزبين، وبقي الوضع هكذا حتى توحدت حكومتا إقليم كردستان سنة 2004 وبرئاسة أخي وصديقي نجيرفان بارزاني».
صالح تربى في بيت فاضل، وفي كنف قاضٍ عادل، ولم يتعلم القفز على منجزات الآخرين، ولا أن ينكر دعم قيادته له، وهو لن ينسى الفرص التاريخية التي أتاحها له زعيمه جلال طالباني الذي راهن على نجاح الشاب برهم، وكسب الرهان، وهو رهان نابع من تجربة سياسية وحياتية غنية يتمتع بها طالباني. يقول صالح: «أنا لا أنسى الدعم الكبير لي من قبل مام جلال، الذي يمثل إرثا كبيرا من التاريخ السياسي، وهو شخصية سياسية ووطنية كبيرة ومخلصة لكردستان والعراق، ومثابرته في عمله مثال يُحتذى، ومعنوياته العالية وفي أحلك الظروف كانت تعينه وتعيننا على مواصلة العمل وعدم التوقف عند المطبات الصعبة، وهو أهم مصادر قوتنا، إذ يمثل رمزا مهمّا وتاريخيا لنا ويتجاوز التعريفات السياسية التقليدية لأي سياسي».
ويكشف برهم صالح واحدة من أسرار ديمومة وقوة علاقته بزعيمه التاريخي جلال طالباني، يقول: «من أبرز نقاط تقاربي مع مام جلال هو أني أستطيع أن أقول له أنا لا أتفق معك عندما نختلف على مسألة من دون أن يفسد ذلك الود الذي بيننا، وهذا هو سر العلاقة التي أبقتني مقربا منه، وقد اختلفت معه في مواقف سياسية كثيرة ومعروفة وبقينا نعمل معا».
لم نألف في عالمنا العربي أو في منطقتنا زعيما سياسيا يتمتع بمنصب رئيس جمهورية أو رئيس وزراء يتخلى عن منصبه من أجل مصالح شعبه وبلده سوى المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، الرئيس الأسبق للجمهورية السودانية، ورئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية، الذي تسلم السلطة في السودان أثناء انتفاضة أبريل (نيسان) عام 1985 بصفته أعلى قادة الجيش وبتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات، ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي، فأصبح مثلا نادرا، وربما وحيدا في هذا المجال. لكن برهم صالح الساعي إلى توحيد حكومتي إقليم كردستان وجد في استقالته السبيل إلى تحقيق هذه الوحدة في وقت أصرت فيه قيادته الحزبية على بقائه في منصبه الذي كانت قيادات كثيرة في حزبه تتمنى نيله، ونعني رئاسة الوزراء، لكن هذا السياسي الشاب لم يكن يعنيه المنصب بقدر ما كان يهمه خير شعبه الكردي الذي عانى كثيرا من الاقتتال والحروب والانقسامات، فوجد في استقالته من منصبه كرئيس للوزراء الدرب الممهد لوحدة الشعب الكردي واستقراره. يقول: «طلبت من مام جلال إنهاء مهامي كرئيس لحكومة كردستان، السليمانية، على الرغم من إصراره (مام جلال) على بقائي، لكنني كنت من الداعمين لموضوع توحيد الإدارتين في السليمانية وأربيل، إذ لم يكن وجود حكومتين في الإقليم مسألة مبررة، ولم أكن أريد لنفسي أن أبقى في موقع يعرقل توحيد الحكومتين».
وحتى يعزز صالح موقفه بترك منصبه غادر إلى واشنطن حيث كانت والدته قد أدخلت المستشفى هناك، ولم يعطِ فرصة لمزيد من النقاشات والإغراءات في البقاء في السلطة. يقول: «بعدها ذهبت إلى واشنطن حيث كانت والدتي تخضع لعملية صعبة ومعقدة لاستئصال ورم في رأسها، وكنت قلقا عليها للغاية».
كان نظام صدام حسين قد سقط، وتمزق مثل ورقة تبعثر شتاتها في رياح احتلال القوات الأميركية للعراق، وكان حشد من العراقيين منشغلين، وبمساعدة القوات الأميركية، يوم التاسع من أبريل من عام 2003، بإسقاط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين في ساحة الفردوس وسط العاصمة العراقية.
ويصف صالح هذا اليوم قائلا: «يوم التاسع من أبريل كان سقوط الصنم، سقوط نظام استبدادي تحكم في هذا البلد وارتكب جرائم فظيعة بحق هذا الشعب وبحق شعوب المنطقة، فلا يمكن أن يكون إلا نقطة انعطاف تاريخية مهمة في تاريخ العراق وفي تاريخ المنطقة. ما حدث من الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على رأس التحالف الدولي لتخليص العراق من نظام صدام حسين لا يجب أن ينظر إليها بحالة مجردة، إنما تسبق هذه الحرب عقود من النضال، من تضحيات جسام تقدم بها الشعب العراقي في مواجهة هذا الطغيان، وحاولنا كل ما حاولنا وقدمنا كل ما كان ممكنا تقديمه من ضحايا ومن جهود ومن إمكانيات من أجل التخلص من هذا النظام، مع الأسف لم نتمكن من التخلص من هذا النظام بقوانا الذاتية، كنا نتمنى أن يأتي إلينا الدعم العربي والدعم الإسلامي للتخلص من هذا النظام بدلا من أن نكون بحاجة أو نتطلع إلى حرب تقودها قوى خارجية، لكن حدث ما حدث، ولا يمكن لي إلا أن أرحب به لأنه بهذه الأحداث انتهى فصل مهم مأساوي كارثي من تاريخ العراق، وهذا لا يعني أن السنوات التي تلت هذه الحرب كانت مفروشة بالورود».
ويعتبر صالح أن تغيير نظام صدام حسين «كان تطورا وحدثا مهمّا وأعطانا الفرصة التاريخية للشروع في بناء عراق آمن، ينتهي فيه الاستبداد ولن يتكرر فيه الحكم الديكتاتوري»، مشددا على أن «إنهاء حكم صدام حسين، هو إنهاء لنظام المقابر الجماعية ونظام التمييز الطائفي والقومي، وهو انتصار كبير للعراق وانتصار كبير للمنطقة». ويعترف قائلا: «لكن يجب أن أقر في هذا السياق بأننا في المعارضة العراقية، التي قدمت الغالي والنفيس من أجل إسقاط هذا النظام، وتاريخ المعارضة تاريخ مشرف أيضا، لكنها (المعارضة) على الرغم من البيانات والإعلانات التي أطلقت في مؤتمراتها، فإنه لم يكن عندها مشروع بناء متكامل بسبب الإفرازات الطائفية والقومية التي جرت، مع الأسف، ويجب أن أقر أيضا بأن المشروع الوطني العراقي لم يكن متكاملا ولم يكن مترسخا. ربما هذه ظاهرة تاريخية طبيعية في مجريات الأمور، كنا منهمكين بمشاريع ومصالح فئوية وإيجاد توازنات قوة، لا قوة التوازن في هذا المجتمع وإنما توازنات مبنية على القوة النسبية لهذا الفريق مقابل الفريق الآخر، وأيضا ربما كانت المشكلة التي رافقت هذه الأوضاع هي التغيير الذي حدث في اللحظة الأخيرة من خلال القوة الأجنبية. أنا أتحدث عن السياق التاريخي. المعارضة كانت منهمكة في النضال ضد صدام حسين في داخل العراق وفي المنطقة، والقرار الأميركي للتخلص من صدام حسين جاء في السنة الأخيرة أو قبل ذلك بسنتين».
يعود صالح إلى تسلسل الأحداث، إذ كان منشغلا بترقب مجريات العملية الجراحية التي أجريت لوالدته بنجاح، يقول: «وبعد خروج والدتي من صالة العمليات رن هاتفي الجوال، إذ أبلغوني عبره ومن السليمانية بأنني مرشح لمنصب وزير الخارجية في حكومة الدكتور إياد علاوي».
لم يكن صالح منشغلا بمسألة المنصب وترشيحه لوزارة الخارجية أو غيرها من المواقع، فالانشغال الأكبر والأهم وقتذاك كان يتعلق بصحة والدته، الأقرب إلى روحه، ثم تواترت الاتصالات من مدينة السليمانية، «حيث أبلغوني بأن مام جلال يطلب مني أن أكلمه عبر الهاتف، وبالفعل اتصلت به، لا أتذكر إن كان هو وقتذاك في السليمانية أو في بغداد، وهذا بعد سقوط نظام صدام حسين. فقال لي: برهم، أريدك أن تعود لأنك مرشح لمنصب نائب رئيس الوزراء العراقي. قلت له إنني باق مع والدتي الآن بعد العملية، وأنا لا أفضل العمل في هذا المنصب، فقال لي: أنت الآن مشغول مع والدتك، وعندما تطمئن عليها نتحدث ثانية».
بعد أن استقر الوضع الصحي لوالدته، عاد ليتصل بجلال طالباني، زعيم حزبه. يتذكر قائلا: «تحدثنا بعد ذلك عبر الهاتف من واشنطن حول نفس الموضوع، وشرحت لمام جلال أسباب رفضي للمنصب المعروض علي، وقلت: أنا كنت رئيس حكومة وكان عندي نائب رئيس حكومة وأعرف معاناة من يكون في هذا المنصب، فضحك وقال: الآن الله سبحانه كتب عليك أن تعيش هذه المعاناة. ثم طلب مني العودة إلى السليمانية، وقال: إن وجودك مهم الآن في العراق. وعدت بالفعل عن طريق تركيا، وعندما وصلت إلى السليمانية اتصل بي الأخ علاوي وطلب مني أن أعمل معه كنائب لرئيس الوزراء».
عانى الأكراد، عامة، طويلا من عقدة الرجل الثاني، المواطن من الدرجة الثانية، أما السياسي الكردي فقد عانى من عقدة النائب، وهذا بالضبط ما دعا صالح للاعتذار عن عدم قبوله منصب نائب رئيس الوزراء في أول حكومة يشكلها علاوي بعد تغيير نظام صدام حسين، يقول: «كتبت رسالة إلى الدكتور إياد علاوي، قلت له فيها إن لدى الكرد عقدة النائب، وأنا لا أريد أن أكرس هذه التجربة، وغير مستعد لها، كما أبلغه مام جلال برأيي، فقال علاوي لطالباني: أنا أعرف من هو الاتحاد الوطني الكردستاني، وأعرف جلال طالباني كما أعرف برهم صالح، وأنا أريده معي».
حدث ذلك من دون أن تكون هناك علاقة قوية مسبقة بين علاوي وصالح، ما عدا لقاءات واجتماعات متباعدة خلال سنوات المعارضة، يوضح صالح قائلا: «أنا كنت أعرف الأخ علاوي في المعارضة، ولم نكن قريبين أو لم تربطنا علاقة قوية، وكنت أعرف توجهاته وأكنّ له الكثير من التقدير والاحترام».
لم تنفع اعتذارات صالح لعلاوي عن رفض منصب رئيس الوزراء، فترشيحه لم يكن حسب توصية أو أجندة خارجية، وإنما جاء بمحض إرادة رئيس الحكومة وقتذاك، وعلاوي وإن لم يكن قد التقى في السابق بصالح فإنه كان يراقبه ويتتبع نشاطاته عن كثب، ثم إن هناك أكثر من مشترك يجمع بين الاثنين، فكلاهما تخرج من الجامعات البريطانية وحصل على شهادات أكاديمية عليا في المجال العلمي، علاوي درس الطب وتخصص صالح بالهندسة، وهما ينحدران من عائلات عريقة وينتميان إلى مدن حضارية، بغداد والسليمانية، فعلاوي ابن طبيب كبير ومعروف وكان مديرا عاما للصحة، وصالح نجل قاضٍ كبير ومعروف أيضا، والاثنان خاضا نضالا شاقا ضد نظام صدام حسين، وهما يتمتعان بشخصيتين قويتين لا تنحنيان للمصاعب أو لإرادة الآخرين، لهذا أصر علاوي على ترشيحه لصالح بأن يكون نائبا لرئيس وزراء العراق. يقول صالح: «اتصل بي علاوي وطلب مني أن أقابله في بغداد، والتقينا وشرحت له فكرتي مرة ثانية، فقال: أنت لن تكون نائب رئيس وزراء بلا صلاحيات أو إمكانيات، بل على العكس من ذلك. فقلت له: إن مهمتك صعبة في هذه الظروف، وأنا لا أريد إحراجك، كما أنك لا تريد إحراجي، وأريد أن أعرف طبيعة صلاحياتي والمهمة التي سأكلف بها، خصوصا وأن هذه أول حكومة عراقية بعد تغيير النظام. وعدت إلى السليمانية في انتظار إجابته».
لم تطُل فترة انتظار صالح للرد على مقترحاته لقبول المنصب، وحسبما يوضح: «تفضل الدكتور علاوي وبكرم بالغ وكتب لي رسالة أخوية كلفني خلالها كنائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن القومي، ثم عاد وقال: ليس هناك نائب للأمن القومي، بل ستتكفل بملفات اقتصادية وخدمية وإعادة الإعمار إلى جانب مساعدتي في ملف الأمن القومي. وذهبت إلى بغداد لاستكشاف الأوضاع هناك، فهذه هي المرة الأولى التي أعمل بها هناك وعلى مستوى العراق، وكان علاوي كريما معي، تعامل كأخ كبير وكنت محط ثقته، إذ خولني صلاحيات كبيرة ومهمة وعملنا كفريق واحد في فترة عصيبة جدا، حيث الأوضاع الاقتصادية سيئة ولا يوجد في البلد أي قوات عسكرية أو أمنية».
وجد صالح نفسه أمام اختبار صعب للغاية، هو امتحان حقيقي لإمكانياته السياسية والإدارية، فهو لم يخُض مثل هذه التجربة، وكل رصيده في العمل الإداري السياسي هو إدارة حكومة السليمانية لا حكومة الإقليم ككل، وإذا كان قد نجح في تجربته أو امتحانه الأول فإن إمكانيات النجاح كنائب لرئيس وزراء العراق كله، بجنوبه وشماله وشرقه وغربه، بعربه وأكراده وتركمانه وسنته وشيعته، ومسيحييه ومندائييه ويزيدييه، يعد حقيقة اختبارا معقدا، من غير أن ننسى أنه كردي، وسيحكم من بغداد التي هي قلب العراق كله، وفي حكومة غالبيتها العظمى من العرب، وفوق هذا وذاك هو في بغداد للمرة الأولى منذ سنوات طفولته، أو فتوته، كما أن الحكومة التي سيساعد رئيسها في قيادتها هي الأولى بعد سقوط نظام شمولي حكم بقوة الحديد والدم لأكثر من 35 عاما، وهم اليوم في طور التأسيس وبناء نظام ديمقراطي جديد غريب عن العادات والتقاليد السياسية والاجتماعية العراقية.
لكن شخصية مثل برهم صالح غير قابلة للانسحاب، بل تستفزه التحديات الكبيرة، وهذا ما طبع تصرفاته وتربيته منذ سنواته الأولى مع تجربته الدراسية والسياسية والمهنية. يقول: «كانت المهمات والظروف تختلف تماما عن ظروف العمل في كردستان، فالعمل مع رئيس حكومة العراق كله في تلك الظروف الحرجة كان يعني بالنسبة لي تحديا كبيرا، حيث كان يزور بغداد وزراء خارجية ووزراء الدفاع الأميركان والبريطانيين وغيرهم من الدول الغربية، ونحن كنا في طور بناء نظام سياسي جديد، لكن كنا نعمل كفريق سياسي قوي ومتماسك، ووجدت نفسي ضمن هذه المهمات الصعبة ومساهما بارزا في إنجازها، وأستطيع القول إني شعرت بثقة كبيرة في العمل وبدعم كبير من الأخ علاوي».


برهم صالح يتحدث في اجتماع لكبار القادة السياسيين العراقيين بحضور السفير الأميركي السابق رايان كروكر («الشرق الأوسط»)


كانت واحدة من أبرز العقبات والمشكلات التي واجهت حكومة علاوي، وستبقى تواجه الحكومات القادمة وعموم المجتمع العراقي، هي تركات نظام صدام حسين، والإرث الخرب الذي تركه هذا النظام للعراقيين، ويشخص صالح هذه المعضلة قائلا: «الكثير من المشكلات التي نعاني منها اليوم هي من إفرازات الوضع السابق، نحن لم نقدر بما فيه الكفاية تغلغل مفاهيم الاستبداد ونظام الاستبداد في أحشاء هذا المجتمع وفي عمق هذا الوضع، كان هناك كثير من التصورات بأنه بالتخلص من نظام صدام حسين ستنتهي مشكلات العراق ونعود إلى ما نريد ونذهب إلى ما نريده من أمن واستقرار وازدهار، واقع الأمر هو خمس وثلاثون سنة من الاستبداد وما صاحب ذلك من اختلافات وتشويهات لهذا المجتمع، وما رافق ذلك من تهديم وتدمير للبنية التحتية الثقافية والسياسية والإدارية والقانونية والتعليمية. وإذا شخصنا أي مفصل من مفاصل الحياة في هذا المجتمع سنرى فيه دمارا كبيرا لحق به بسبب سياسات الاستبداد، وبسبب سوء الإدارة، وبسبب الفساد، وبسبب الحروب، وبسبب الحصار، وبسبب العزلة التي عانى منها العراق خلال هذه السنوات الطويلة، وبسبب سياسة التمييز الطائفي والقومي التي مارسها النظام السابق وبصورة منهجية، لذلك فإن الكثير من مشكلات اليوم لا يمكننا إلا أن نؤكد على أنها موروثة من عهود الاستبداد، ولكن كلما طالت بنا الفترة من ذلك اليوم، يزداد اللوم علينا نحن القائمين على الأمر العراقي».
يضاف إلى كل هذا الموروث الذي شخصه صالح، فإنه يكشف عن أن «حكومة الدكتور علاوي كانت قد جابهت تحديات كبيرة، إذ ورثنا دولة مهدمة بلا جيش أو شرطة وبلا مؤسسات وبلا دستور، كان هناك قانون إدارة الدولة الذي وضعه بول بريمر، الحاكم الأميركي المدني على العراق وقتذاك، والمشكلة الكبرى كانت الخط الفاصل بين الإدارة الأميركية والحكومة الوليدة ذات السيادة، وكنا مطالبين دائما بإثبات أن هذه حكومة ذات سيادة وليست حكومة احتلال، أو أنها حكومة تابعة لإدارة الاحتلال».
هذه المصاعب لم تدفع السياسي العراقي الكردي الشاب إلى التراجع أو الانسحاب، بل على العكس تماما، حفزت فيه روح التحدي والإصرار على الرغم من التعقيدات الموضوعية التي كانت تحيط به ويشعر بها. يقول: «أنا من النوع الذي لا يستسلم أو يعجز بسهولة، فعندما أعمل على أمر أثابر عليه بلا كلل حتى أحققه، حتى إن بعض الإخوة يقولون لي إن أفضل الأوقات في أدائي هو وقت الأزمات وليس وقت الراحة».
ويصف تجربته في العمل مع علاوي قائلا: «هذه التجربة صقلت فيّ مهارات إدارة متناقضات مختلفة في بغداد، فأنا كردي في محيط عربي أعمل مع الآخرين على بناء دولة جديدة ليس فيها مظاهر التمييز الطائفي والقومي، وأنا أعتز بتلك التجربة وآمل أني قدمت إنجازا في هذه التجربة لبناء عراق نريده أن يكون فاعلا».
وجد صالح نفسه في حكومة علاوي، شعر بقيمة وأهمية الإنجازات التي يسهر ويجد من أجلها، ذلك أن هذه الحكومة تميزت عن الحكومات التي ستلحق بها بأنها بعيدة عن المحاصصات والفئوية، بل كانت حكومة تأسيس وبناء بلد وضع توا على سكة الديمقراطية. يوضح صالح ذلك بقوله: «حكومة علاوي كان عمرها قصيرا ونجحت في التهيئة للانتخابات، وتميزت بأنها لم تخضع للمحاصصة الطائفية بالشكل الذي رأيناه وعشناه في ما بعد، إذ إن غالبية وزرائها كانوا من التكنوقراط، كما أنها كانت تضم أطرافا سياسية مهمة، وتوالي الانتخابات التي جرت في تلك الفترة خلق نوع من الاستقطابات التي صعبت العمل السياسي في العراق، ولو كانت هناك حكومة مؤقتة على غرار حكومة علاوي لعملت على استتباب الأمن والوضع السياسي بصورة أفضل من إجراء انتخابات متتالية في ظروف لم تستقر فيها الأوضاع السياسية».
هل كان من سوء حظ العراق والعراقيين أن لا تستمر حكومة علاوي التي كانت تضم فريقا ناجحا ومتطورا من الوزراء المتخصصين والناجحين باعتراف غالبية السياسيين والمراقبين العراقيين وغير العراقيين؟ بعد أقل من عام تغيرت الحكومة، ومعها تغيرت المناصب ضمن لعبة الكراسي السياسية، وكان على صالح أن يخدم بلده وشعبه ضمن أي موقع يجده مناسبا ومفيدا للعراق الجديد، وكان أن تم ترشيحه وزيرا للخارجية، لكن توازنات الأحزاب والتوافقات السياسية وضعته في مكان آخر يتناسب مع اختصاصاته الأكاديمية والمهنية. يقول: «في حكومة إبراهيم الجعفري (وهي الحكومة التي تلت حكومة علاوي بعد فوز الائتلاف العراقي، الشيعي، في الانتخابات) تبوأ مام جلال منصب رئيس الجمهورية فتم منح منصب نائب رئيس الوزراء للحزب الديمقراطي الكردستاني وصار روش نوري شاويس بهذا المنصب، وأنا تسلمت حقيبة وزارة التخطيط، والأخ هوشيار زيباري وزيرا للخارجية، وهو من الوزراء الأكفاء ونجح في عمله».
لا يتأخر صالح طويلا في أداء مهامه في مهمته الجديدة، ولن يقف متأملا موضوع المناصب ولعبة التوازنات والمحاصصات التي رافقت تشكيل حكومة الجعفري. يوضح قائلا: «خلال عملي كوزير للتخطيط عملنا بجد، وانشغلنا بمشروع إجراء إحصاء سكاني عام في العراق، ووضعنا ورقة العمل والخطط وحددنا الميزانية، وكان الأخ مهدي العلاق، مدير الإحصاء في الوزارة، قد عمل بجهد لتحقيق ذلك، لكن حكومة الجعفري كان عمرها عاما واحدا، وفي حكومة (نوري) المالكي (رئيس الوزراء الحالي) تواصل العمل في هذا الاتجاه، لكن دخول عوارض سياسية وأمنية منع من إجراء الإحصاء العام».
في الانتخابات التشريعية التي جرت في ديسمبر (كانون الأول) 2005 خرج المشروع الوطني العلماني الذي قاده الدكتور إياد علاوي، ومثلته القائمة العراقية، خاسرا، إذ فاز الائتلاف العراقي الشيعي بأغلبية مريحة بعد أن لقي دعم المرجعية الشيعية في النجف ودعما إيرانيا واضحا، كما لم يحصل العرب السنة على مقاعد تمكنهم من أن يكونوا مؤثرين سواء في تشكيل الحكومة أو في البرلمان على الرغم من إسناد رئاسة مجلس النواب لهم.
كانت القائمة العراقية تنبذ المحاصصة وتعمل بعيدا عن الاستقطابات الطائفية والقومية، أما التحالف الكردستاني الذي جمع بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وخاض الانتخابات تحت هذه التسمية (التحالف)، فقد اهتم بالتأكيد على الشأن الكردي خاصة والعراقي عامة، وتحالف مع الائتلاف العراقي الموحد لتشكيل الحكومة التي تأخر جمع حبات مسبحتها لمشكلات أثارها الجعفري، رئيس الحكومة السابقة، إذ رفض التنازل عن منصبه، لكن الحوارات بين الأطراف السياسية تمكنت من إقناع الجعفري بالتنازل لمساعده الحزبي وقتذاك، المالكي، واستمرت العلاقة المتطورة بين الأكراد والشيعة بينما انسحب التيار العلماني الوطني، علاوي، من العملية السياسية ومن الحكومة. وهكذا جاءت حكومة المالكي شيعية كردية أكثر مما هي حكومة وحدة وطنية أو شراكة وطنية، إذ همش المكون السني وأبعد الاتجاه العلماني.
يتحدث صالح عن هذه المرحلة قائلا: «هناك أبعاد مختلفة في التحالف الكردي الشيعي، منها أن القوى الأساسية التي كانت تحارب النظام السابق هي الأكراد والشيعة، وبالذات الأحزاب الشيعية الإسلامية، وهذا التحالف نشأ منذ ذلك الوقت، فالنظام السابق كان يمارس سياسة الاضطهاد القومي ضد الكرد والطائفي ضد الشيعة، مما أدى إلى استقطابات طائفية»، مضيفا أن «التحالف الكردي الشيعي بلا شك صار يمثل الصبغة السياسية للنظام الجديد في العراق، على الأقل خلال السنوات الماضية».

27‏/09‏/2010

د.برهم: بعثيون طلبوا مني الانضمام إليهم فأجبتهم بأنني كردي ولا أستطيع الانتماء لحزب عربي

رئيس حكومة الإقليم: أطلق سراحي من المعتقل قبل الامتحانات بيومين ومع ذلك حزت المرتبة الثالثة على العراق

عن الشرق الأوسط

في هذه الحلقة من مذكرات برهم صالح، يواصل الحديث عن حادثة اعتقاله، قائلا «أخذوني إلى معسكر السليمانية الذي كانت تجري فيه الاعتقالات والإعدامات، وهو مكان مرعب، تحول الآن إلى متنزه كبير يحمل اسم (بارك آزادي) - متنزه الحرية. هناك ضربوني لكن ليس بقسوة، وعند ظهيرة اليوم التالي عرضوني على النقيب عبد، مسؤول في الاستخبارات العسكرية في السليمانية، وللإنصاف أقول إنه تعامل معي بلطف.. قال لي (اجلس ولا تقل أي شيء من دون أن أسالك)، ثم أردف قائلا (هناك صديق لي هو فلان، من عائلة الساعاتي في السليمانية، وهذا الرجل أحترمه وأقدره لأنه ساعدني كثيرا، وقد طلب مني مساعدتك، وأنا قرأت ملفك، وأنت ابن عائلة معروفة ومتفوق دراسيا، لكن لدينا معلومات أغلبها دقيق وسنحقق معك فقط). وأوصل لي رسالة مفادها أنه سيكون طيبا معي، وقد توسط صديقه بأن يجلبوا لي الكتب المدرسية لأنه لم يتبق سوى أيام قليلة على الامتحانات التي ستقرر مستقبلي، وبالفعل جلبوا لي الكتب في اليوم الأخير من التحقيق حيث بقيت ثلاثة أيام عندهم، وأفرجوا عني، حيث لم يكن قد بقي على موعد الامتحانات سوى يومين، أو يوم واحد، وصار عندي تحد كبير لأن أبرهن تفوقي أمام الجميع».

ويضيف صالح «بالفعل خضت الامتحانات النهائية وكانت النتيجة أن نجحت بتفوق وجاء معدلي (96.06%)، حيث كنت الأول على محافظات كردستان (الحكم الذاتي وقتذاك)، والثالث على عموم العراق، وكان عدي صدام حسين هو الأول على العراق حسبما سمعت وقتذاك».

يقول أستاذه في المدرسة، الأستاذ فهمي «أتذكر جيدا أن الحاكم أحمد والد برهم اتصل بي هاتفيا وأبلغني بأن برهم قد أطلق سراحه، وأنهم يريدون مني أن أدرسه مادة الرياضيات، وكما نعلم فإن مادة الرياضيات صعبة جدا، ومن الصعب أن ينجح فيها طالب كان في السجن ورأى كل ذلك التعذيب، ذهبت بسيارتي إلى منزل عائلته، وبدأت أدرسه مادة الرياضيات، وعندما كنت أشرح الدرس لبرهم وأعطيه الأمثلة كان يقول لي (يكفي هذا يا أستاذ فهمي وانتقل إلى موضوع آخر). كنت أعتقد أنه كان يريد أن ينجح فقط ولم يكن في بالي أن يحصل على تلك الدرجات العالية، كانت درجاته (96.6%) أي أنه كان الأول على منطقة كردستان والثالث على العراق، وكانت سعادتي الأكبر أنه حصل على مائة درجة من مائة في مادة الرياضيات».

ويستطرد قائلا «رأيت يوما والد الدكتور برهم، هنأته وقلت له: هل سترسل برهم إلى كلية الطب أم كلية الهندسة؟ فقال، يا أستاذ فهمي أنا نفسي من (الـعائدين) - الذين كانوا مع الثورة الكردية وعادوا إلى مدنهم بعفو - وإذا مارس هو أيضا السياسة فهذا معناه أننا سنلقى حتفنا ونفقده، فليذهب إلى بريطانيا حيث سيحمي علمه ويمارس السياسة أيضا».

يقول شوكت حمدي رشيد، الذي كان مديرا لإعدادية شورش عام 1977 وكان يعرف الدكتور برهم عن قرب حيث كان أحد تلامذته «لم أكن أعرف برهم من قبل، لكني سمعت بذكائه بحيث كان يؤمل أن يكون الأول على مستوى العراق»، مشيرا إلى أن «برهم صالح كان ظاهرة بين الطلاب كالنجم الساطع، إذ لم يكن وفيا ومخلصا للمدرسين فحسب، بل كان وفيا للطلاب أيضا».

ويستطرد هذا المربي الفاضل قائلا «أتذكر جيدا أن برهم اختفى بعد امتحانات نصف العام، وتبين بعد ذلك أنه اعتقل، اتصل بي والده مباشرة وأبلغني أن السلطات الأمنية اعتقلت برهم، ولكوني مديرا للمدرسة حيث كان أبناء مسؤولي حزب البعث طلبة عندي، وكانت لي معرفة بآبائهم، لذا قلت إنني سأبذل ما في وسعي على الرغم من أنه كان هناك الكثير من المخلصين الذين قاموا بمحاولات كثيرة لإطلاق سراحه، ذهبت إلى مدير أمن السليمانية الذي كنت اعرفه فقد كان ابنه طالبا في الصف الثالث في مدرستي، جلست معه وحدثته عن الأمر، فقال (أعرف كل شيء). فقلت (وماذا تعرف؟)، قال (الولد الذي تتحدث عنه هو من تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني، ومن الأفضل ألا تتدخل في هذا الموضوع) فقلت له إن (ذلك الولد الذي اسمه برهم طالب عندي ونتوقع أن ينجح بالمرتبة الأولى على مستوى العراق، فكيف أتركه هكذا؟)، فقال (حسنا فلتنته التحقيقات عندها أرى ما يمكنني أن أفعله)».

ويضيف رشيد الذي كان مديرا للمدرسة التي كان يتعلم بها برهم، قائلا «عندما خرجت لم يكن عندي أمل في إطلاق سراحه، وبعد فترة ذهبت إليه وقلت له (إن برهم بحق طالب ذكي ومن الظلم أن يبقى في السجن، ويمكنك أن تسأل المدرسين العرب عن تصرفه داخل المدرسة). بعد فترة أبلغني مدير الأمن بموافقته على إرسالنا كتب برهم إليه في السجن، أرسلوا ليدرس هناك، وهذا ما أعاد إلي الأمل، وقد أرسلت له الكتب فورا».

ويستطرد بذكرياته عن تلميذه برهم، بقوله «نتيجة لجهودنا وجهود المخلصين الآخرين أطلقوا سراحه قبل الامتحانات، وقد استطاع برهم أن يدرس في السجن في حين كانوا يحققون معه ويعذبونه كثيرا، لكنه استمر في دروسه وفي النهاية أخذ المرتبة الأولى على مستوى كردستان والثالثة على مستوى العراق، ويبدو أن إدارة الأمن كانت قد قررت اعتقاله مجددا بعد الامتحانات، لكن كانت حكمة أهله في أنهم أرسلوه إلى خارج البلاد».

وينبه رشيد إلى أن «برهم كان يعمل آنذاك كقائد شاب ومتمكن، وهناك فرق بينه وبين القادة الآخرين وهو أنه أتم شيئين في حياته بنجاح، الأول هو دراسته والثاني هو عمله السياسي، وهذا ليس بالأمر الهين، وقلة من القادة يستطيعون أن يوفقوا بين القضيتين»، مستذكرا «حادثة لن أنساها أبدا وهو أنه بعد عودة الدكتور برهم إلى إقليم كردستان بعد سنة 2001، وتوليه منصب رئاسة حكومة الإقليم في السليمانية،اتصل بي سكرتيره وقال لي أنه يريد رؤيتي مع المدرسين الذين كانوا أساتذته وقتذاك، وبدوري أبلغت المدرسين وذهبنا إلى مجلس الوزراء، وعلى الرغم من أن ضيوفه كانوا كثيرين، فإنه قدم موعدنا وبقي معنا أكثر من ساعة. كان يدهشني أدبه وإخلاصه بحيث أنه كان يجلس في النهاية وتبين لنا بتصرفه هذا أن كرسي السلطة لم يغير برهم وانه نفس الطالب السابق».

يقول برهم صالح «هذه النتيجة، نجاحي المتفوق، حولتني إلى قصة المدينة، حيث اجتمع الناس في بيتنا مهنئين وجاءوا من مناطق بعيدة من دون أن نعرفهم، إضافة إلى الأقارب والأهل، إذ صاروا يفتخرون بابن السليمانية الذي اعتقل وخرج من المعتقل إلى الامتحانات وتفوق».

يستطرد قائلا «في اليوم التالي أرسل بطلبي مسؤول تنظيمات السليمانية لحزب البعث، وذهبت لمقابلته، هنأني على تفوقي وقال لي (الآن يجب أن تنتمي إلى حزب البعث وترى مستقبلك، وإلا فمن الصعوبة أن أحميك)، قلت له أنا لا استطيع أن أكون بعثيا، إذ إن هذه الطريقة فيها خيانة لمبادئي، فأنا إذا صرت بعثيا تحت التهديد سأكون قد انتميت إلى الحزب تحت سلطة الخوف وليس إيمانا بالحزب، ثم إن الحزب اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنا كردي، فكيف أدخل إلى حزب عربي؟.. صمت قليلا واحتار بما يجيبني، فقال (اذهب وفكر وأنا في انتظار ردك)».

لم يخطر في ذهن برهم التفكير في الموضوع ولو لدقائق، لكنه بالتأكيد كان قد فكر في الخطوة، أو الخطوات القادمة التي تهم حياته ومستقبله. هنا، أيضا، يجد نفسه في مفترق طرق جديد، لكن هذا المفترق سيكون الأهم في تاريخه على الإطلاق، يقول «عندما عدت إلى البيت واجتمعت مع أهلي وأقاربي ورفاقي وبعض الأصدقاء، وأخبرتهم بما جرى مع المسؤول البعثي، هناك من اقترح علي أن التحق بالثورة الكردية في الجبل وأخلص من الملاحقات الأمنية، لكن أحدهم قال (أنت متفوق، وأقترح أن أكمل دراستي خارج العراق، إذ كانت الحكومة وفي عهد رئاسة أحمد حسن البكر تبعث الطلبة العشرة الأوائل من خريجي المدارس الإعدادية كل عام للدراسة خارج العراق، في أوروبا على الأغلب وعلى نفقتها، هذه الفكرة هي التي لقيت التأييد الأوسع من قبل عائلتي ورفاقي في الحزب على حد سواء، وهكذا باشرنا بالعمل على تنفيذها والشروع بها، فذهبنا إلى بغداد واستكملنا إجراءات البعثة الدراسية وحصلت على جواز سفر، لكن تحريات عمي توصلت إلى أن اسمي كان ضمن لوائح الممنوعين من السفر في المطار، فعملوا جهدهم بالتوسط وتقديم الهدايا لرفع المنع، ولم يرشحوني إلى البعثات بالرغم من تفوقي لأنني لم أكن بعثيا، لكننا كنا نريد رفع منع السفر أولا ولا يهمنا موضوع البعثة، وهكذا غادرت بغداد إلى لندن في الرابع من أغسطس (آب) 1979 للدراسة على نفقتي وليس على حساب الدولة».

لم يتحدث برهم صالح يوما للإعلام عن حياته السياسية أو عمله الحزبي داخل تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني، مع أن تاريخه الحزبي حافل بالعمل السياسي السري، حتى بات البعض يتصور أن هذا السياسي جاء فجأة من خارج التنظيمات ليتبوأ المناصب.

لكن رفاق دربه الحزبي هم الذين قدموا إفاداتهم وشهاداتهم عن التاريخ الحزبي لصالح، وخسرو عبه رش، أأحد مناضلي الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث التحق بالتنظيمات السرية للحزب منذ شهور تأسيسه الأولى داخل السليمانية عام 1975، وكان قد واكب عن قرب العمل الحزبي لبرهم، يقول «في يوم من الأيام كان عندي اجتماع مع الرفيق حمة حسين (قتل لاحقا) فقال لي إن لدي صديقا ذكيا ومتمكنا يريد أن ينضم إلينا، وكان الشخص الذي يتحدث عنه هو برهم صالح فقلت له (من الأفضل أن يبقى معك في التنظيم) فقال (إن قدراته الفكرية والعلمية أكبر مني، بالإضافة إلى أنه صديقي وأخشى أن تؤثر صداقتنا سلبيا على عملنا التنظيمي)، عند ذاك وافقت على ضم برهم معنا».

ويستطرد خسرو قائلا «كانت أولى جلساتي مع برهم في أحد المقاهي التي كانت تقع أمام السينما رشيد في مدينة السليمانية، وعندما وصل رأيت شابا وسيما عرفني بنفسه، لا أعرف ما اعتراني ساعتها لكنني في عيون هذا الشاب قرأت أن الثورة تخطو نحو النصر حيث كان من النادر أن يفكر شاب غني وثري في أن يصبح وقودا للثورة والعمل التنظيمي، وكنت سعيدا جدا بانضمامه إلينا ومنحناه لقبا سريا هو (باور)» وفيما يتذكره خسرو عن الإمكانيات الفكرية التي كان يتمتع بها برهم وقتذاك، يقول «كنت أحمل معي كتابا لـ(مام جلال) وعنوانه (بره) وكان أول موضوع نناقشه. فطلب برهم مني أن أعطيه الكتاب، لكننا كنا لا نملك كثيرا من نسخه آنذاك، فقلت له (لا أستطيع أن أعطيك الكتاب لأنه النسخة الوحيدة المتوافرة لدي)، فقال (أعطني إياه لهذه الليلة فقط) وفعلت، وفي الصباح اتصل بي هاتفيا وقال (أريد أن أراك)، وعندما وصل رأيت أنه قد أعاد الكتاب وقد أعاد كتابته بنسختين. كان ذلك شيئا غريبا بالنسبة لي وهو أن ينشغل طالب آنذاك بكتابة ذلك الكتاب وخلال ليلة واحدة يقوم بكتابته بنسختين وبخط يده».

ودعما لما ذكره برهم نفسه حول استغلاله لسيارة والده الحاكم لأغراض التنظيم الحزبي، يذكر خسرو «نظرا لأن وضع برهم من الناحية الاقتصادية كان جيدا جدا حتى إن عائلته كانت تمتلك سيارة في وقت كانت السيارات قليلة في المدينة، لذلك كنا نقوم بأغلب فعالياتنا الحزبية بسيارتهم، إذ كان في بعض الليالي يخرج بسيارتهم دون علم أهله لننقل بها مقاتلي البيشمركة، وأتذكر في إحدى المرات دخل الدكتور بختيار وآسو دلاك وشوان (قتلوا جميعهم فيما بعد) إلى المدينة للقيام بعملية، لكن مع الأسف استشهد الدكتور بختيار خلال القيام بتلك العملية ونجا الآخرون، وكان لبرهم دور كبيرا في إخفاء هذين الرفيقين آسو وشوان، حيث سلمتهما إلى برهم قبل مغادرتهما المدينة بليلة واحدة، وقد أخفاهما في منزل عائلته».

ويستطرد خسرو ساردا التاريخ النضالي لبرهم، يقول «بعد فترة أصبحت طالبا في الموصل، واضطررت إلى أن أعرف برهم بالرفيق حمة رؤوف (قتل لاحقا) ولكن مع الأسف عرفه بدوره على مدرس كان اسمه كمال وكان في عمر والده وكان هذا غير مناسب نظرا للتفاوت الكبير في العمر بينهما وكنا نخشى أن يتم كشفهما من قبل السلطات، لذلك طلبت من لحمة رؤوف أن ينقل برهم فكان أن أرسلوه عند جمال ديمقراط ولكن تم اعتقال برهم بعد شهرين».

ويوضح «في الحقيقة كنت خائفا جدا على برهم ولم أتجرأ على أن أعود إلى السليمانية إلى أن تم إطلاق سراحه. وأقولها باعتزاز إن برهم صالح استطاع أن يبدي التحمل والإصرار، ويتخطى تلك التجربة بنجاح، لكنه اعتقل بعد فترة من جديد، ولم يعترف بشيء هذه المرة أيضا وتم إطلاق سراحه».

هناك من يلوم برهم صالح لعدم صعوده إلى الجبال والقتال مع قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، مع أنه، وحسب شهادات رفاقه ومسؤوليه في الحزب، كان يقوم بمهمات أكثر أهمية وخطورة من تلك التي كان سيؤديها هو في الجبل، بل إن مسؤوليه في التنظيم كانوا قد رفضوا أن يذهب إلى الجبال، وفضلوا أن يكمل دراسته خارج العراق اعتمادا على مؤهلاته العلمية العالية وتفوقه الدراسي الكبير، حسبما يؤكد خسرو «بعد ذلك قررنا أن هناك طريقين أمام برهم، إما أن يخرج إلى الجبال، أو أن يغادر إلى خارج العراق لنبعده عن أيدي الجهات الأمنية أولا، ونستفيد من قدراته العلمية ثانيا، وتبين لنا أنه من السابق له أن يخرج إلى الجبال حيث كنا نقول دائما إن الدراسة هي فوق كل شيء، وإن الذين لديهم القدرة على الدراسة يجب أن يكملوا دراستهم. كان من رأي أغلب الرفاق أن يغادر برهم إلى خارج البلاد وقد تم ذلك وخرج من العراق».

لكن علينا ألا نعتقد أن حياة الفتى أو الشاب برهم صالح كانت عبارة عن مشاغل سياسية وحسب، حياة خالية من اللون والصوت وقوة التعبير، يتحدث عن تلك الفترة قائلا «كان جيلنا مهتما بالثورة الكردية وبالثقافة في آن واحد، لإدراكنا أن كل مفردة من هذه المفردات تكمل بعضها، وأنا كنت مهتما بالثورة ونشاطي السياسي وبالقراءة والدراسة في الوقت ذاته، وكنت ولا أزال أهتم، وأنا ملم، بالثقافة الكردية وإلى حد كبير بالثقافة العربية، ولدي اهتمام خاص بالمسرح، ولا أزال أتابع الحركة المسرحية في السليمانية». ويكشف هنا عن انتمائه لحركة مسرحية أراد أن يختبر خلالها مواهبه الإبداعية «وقد انتميت إلى فرقة مسرحية في السليمانية، لكنني لم أكن ممثلا جيدا فتركتها، كما كانت تعقد ندوات ثقافية كثيرة في مدينتنا وكانت وقتذاك جزءا من الحراك السياسي، أي أنها لم تكن ندوات ثقافية بحتة، وكأي شاب وقتذاك كنا نستمع للأغاني الجديدة خاصة الكردية، فرقة السليمانية وحسين كرنياني، وأيضا كنت معجبا بمظهري خالقي (فنان كردي إيراني)، وبسبب السنة التي قضيتها في إيران وتقارب الثقافتين الكردية والإيرانية أعجبت بالغناء الإيراني خاصة داريوش وهايدا ومهستي وكوكوش، كما كنا نتابع ديمس روسز وتوم جونز، وإلهام المدفعي الذي يمثل مزاوجة جميلة بين الفن العراقي الأصيل والجاز الغربي».

برهم صالح أخذ على عاتقه بعد سنوات طويلة، وعندما تسلم مسؤولياته كنائب لرئيس الحكومة العراقية، إعادة إعمار شارع المتنبي ليعيد لبغداد جزءا مهم من ألقها الثقافي والحياتي المميز، وهو يتابع الإنجازات الثقافية من شعر وفنون تشكيلية وموسيقى، ويحتفظ اليوم في بيته بأعمال تشكيلية عراقية مختلفة الأساليب والرؤى لفنانين عراقيين، هذه المجموعة تعبر عن رؤيا واضحة لهذا المنجز الفني العراقي المهم.

لكنه، وفي سنوات شبابه الأولى، كان يتابع الحراك الثقافي في مدينة السليمانية التي عرفت باعتبارها واحدة من أهم المدن الثقافية في العراق، كما تميز أهلها بمتابعاتهم وانشغالاتهم الثقافية التي تتوزع على السينما والمسرح والموسيقى والغناء والشعر والفنون التشكيلية، يقول مستذكرا «كانت تعقد أمسيات شعرية للشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس قبل وبعد التحاقه بالثورة الكردية، وكذلك للشاعر المعروف لطيف هلمت، وكذلك للشاعر الكردي الإيراني هيمن الذي جاء إلى السليمانية واحتشدنا لسماع قصائده إذ كنا سمعنا عنه وقرأنا له قبل أن نراه، وكان المتلقي يفسر كل كلمة من القصائد حسبما يريد باعتبارها رموزا سياسية وليست قصائد. وكنت أذهب كثيرا إلى السينما لا سيما أن عمي كان يملك دار عرض سينمائية، وكنت أدخل مع أصدقائي مجانا، في وقت كانت توجد فيه ثلاث دور عرض سينمائية في عموم المدينة، وغالبا ما كنت أذهب لمشاهدة الأفلام التي فيها نوع من القصص السياسة أو سيرة حياة مناضل ثوري عالمي، فقد كانت هذه الأفلام نادرة بسبب الرقابة الأمنية المشددة عليها».

كان برهم يعيش مرحلته العمرية بكل مساحاتها واشتراطاتها الحياتية، يقول «كنا نتابع موديلات الملابس ونرتدي آخر ما يصل من الأزياء الأوروبية، مثل سراويل الجارلس والأربطة العريضة الملونة، وكنت أطلق شعري طويلا، يوم كان لي شعر بالطبع». ويستدرك قائلا «أنا عشت مراحل حياتي كاملة وغير ناقصة سواء طفولتي أو فتوتي وشبابي، وكنت أمارس نشاطي السياسي والثقافي وأتفوق دراسيا، حيث كنت أنجح وأكون الأول على المدرسة كل عام، إذ لم أكن أتغيب عن المدرسة، وكنت مواظبا على أداء واجباتي الدراسية والاجتماعية».

التفوق الدراسي كان سببا لإنقاذه من محن آنية كثيرة، فمثلا «خلال التحقيق معي في المعتقل كانت حجتي أنني متفوق دراسيا ومواظب على الحضور في المدرسة، فكيف تتهمونني بكل هذا الحراك السياسي؟ ولو كنت مثلما تقولون لانشغلت في العمل السياسي وتركت دراستي، وكانت هذه أهم وسيلة للدفاع عن نفسي، والحق يقال إن بعض معلوماتهم كانت دقيقة وصحيحة من خلال مراقبتهم وبعض الاعترافات التي حصلوا عليها وكذلك من خلال عملائهم المتعاونين معهم، وكانت حججي تخلق لهم نوعا من الإرباك والشك في الوشايات أو المعلومات التي وصلتهم، إذ كيف يمكن أن يكون تلميذ في السنة النهائية من الدراسة الإعدادية متفوقا ودرجاته عالية ومواظبا على دراسته وحضور المدرسة وفي الوقت ذاته هو نشيط سياسيا».

لقد حول برهم كل ما اختزنته ذاكرته من مشاهد ومعايشة حقيقية وعن قرب إلى دروس يستنير بها حاليا، يقول «كانت الأجهزة الأمنية مسيطرة من حيث السطوة والإرهاب ومن خلال أجهزتهم المخابراتية والأمنية والحزبية، لكن بسبب افتقادهم للدعم الشعبي وعدم تعاون الناس معهم في السليمانية لم يستطيعوا السيطرة على التحركات السياسية، وحتى لم يتمكنوا من ضبط الشارع أمنيا، وهذا درس بليغ لكل الأجهزة الأمنية والحكومات بأنها إذا لم تكسب الناس وتشعرهم بالانتماء إلى الشعب فإنها لن تتمكن من إنجاز أي شيء، فالسطوة والتعذيب وإشاعة العنف والخوف لا تحقق أي شيء مهما بلغت قوة هذه الأجهزة وبطشها، بدليل أن الحكومات العراقية متعاقبة وعبر عشرات السنين وبجيوشها وسطوة أجهزتها الأمنية وسجونها وإعدامها للآلاف من الأكراد لم تستطع القضاء على الثورة الكردية أو إيقاف تيار نهرها الجارف. وهنا أتذكر حادثة حصلت عام 1976، إذ صحونا ذات يوم مبكرين، وبالضبط الساعة الثامنة صباحا، على أصوات رصاص يتردد صداه في مركز مدينة السليمانية إثر تعرض موكب المحافظ إلى هجوم مسلح من قبل رفاقنا في شارع مولوي، وهو مركز المدينة النابض بالحركة، لم أكن أعرف وقتذاك المهاجمين، لكننا عرفنا فيما بعد أن المنفذين للعملية ينتمون إلى التنظيمات السرية للاتحاد الوطني الكردستاني. هذه الحادثة وغيرها من عمليات تؤكد أن قوة القمع السلطوي لا تستطيع إيقاف عجلة أي ثورة ضد الاستبداد».

حادثة أخرى يتذكرها بدقة «عندما كنا، مثلا، نوزع منشورات حزبية سرية، أو ننقل بعض قطع السلاح سرا، ونجد أن الأجهزة الأمنية تلاحقنا بسياراتها السريعة وعناصرها المدججين بالسلاح، كنا ندخل أي بيت قريب ونقول لهم إننا نتعرض للمداهمة أو الملاحقة من الأمن، فكانوا يؤووننا ويدبرون الطرق لإخفائنا أو تهريبنا لإنقاذنا، وكنا نطمئن أن كل بيت يؤوينا ويفتح أبوابه أمامنا بلا تأخير أو قلق، وكانت كل بيوت السليمانية هي مقرات احتياطية للجوئنا واختفائنا من غير أن نتفق معهم أو نشعرهم مسبقا بذلك لأنهم يعرفون أننا نناضل من أجلهم ومن أجل حريتهم وحياتهم وقضيتهم».

يعزو صالح أحد أهم أسباب فشل سلطات النظام السابق في قمع الثورة الكردية والقضاء عليها إلى الالتفاف الشعبي الكردي على هذه الثورة والإيمان بها ودعمها، يقول «هذه تجربتنا مع حزب البعث في العراق، فالحزب الحاكم آنذاك كان في حالة حرب مع الثورة الكردية التي شكلت واحدة من أشد المراحل خطورة عليهم، وهي حرب بين شعب مؤمن بعدالة قضيته ونبل تضحياته، وسلاح هذه الثورة هو الإيمان بقوة الإرادة وليس بالأسلحة البسيطة التي كان يتوفر عليها مقاتلو ثورتنا، بينما كان الجانب المقابل هو الحكومة، حزب البعث الذي كانت لديه القوات المسلحة بجميع أسلحتها المتطورة من طائرات مقاتلة ودروع وأعداد كبيرة من الجنود والأسلحة الثقيلة، إضافة إلى مختلف الأجهزة الأمنية والمعتقلات المزودة بأشد وسائل التعذيب والتنكيل قسوة والجيش والمعسكرات التي كانت مزروعة وسط مدننا والتي كان يُعدم فيها يوميا العشرات من الثوار الأكراد، بل كانت دائرة الأمن وسط مدينة السليمانية (بناية الأمن الحمراء) التي شهدت حلقات يومية من تعذيب الرجال والنساء، بل وحتى الأطفال وإعدامهم، إذ عرفت هذه الدائرة باعتبارها الأكثر قسوة ورعبا في كردستان، وربما في جميع المحافظات العراقية، باستثناء مقار ومعتقلات مديرية الأمن العامة ورئاسة المخابرات في بغداد، ومع ذلك لم تتمكن سلطات البعث من قمع الثورة الكردية لأن هذه الثورة كانت مدعومة من قبل الناس، من قبل الجماهير الكردية التي اعتبرت أن النظام الحاكم ضدها ويريد القضاء عليها وعلى طموحاتها وأحلامها وإرادتها، وذلك من خلال القضاء على ثورتها لهذا حاربت هذه الجماهير أساليب وقمع النظام بشتى الطرق المتاحة، فالشعب كان معنا ولنا».

دائرة الأمن الحمراء (امنه سوره كا) كما تسمى أو مشهورة باللغة الكردية، تحولت اليوم إلى متحف يعرض أجهزة ووسائل التعذيب والقتل، ولم تتم إعادة إعمار هذه البناية، إذ بقيت على حالها لتبقى شاهدا حيا ووثيقة تتحدث عن المآسي التي جرت بين جدرانها، وتدين وحشية وتسلط النظام التعسفي الذي كان حاكما في العراق.

26‏/09‏/2010

في مفترق الطرق ( 2 ). مذكرات الدكتور برهم صالح.

معد فياض

رئيس حكومة إقليم كردستان في مذكراته لـ «الشرق الأوسط» : بيتنا كان قريبا جدا من دائرة الأمن ومع ذلك كنا نسعف المقاتلين الجرحى

يأتي مفترق جديد في حياة الفتى برهم يفرض عليه ترك مدينته الأثيرة إلى نفسه، السليمانية. لكن الدروب ستأخذه هذه المرة بعيدا عن بيئته الحاضنة، وعن جغرافيته المؤثثة بالجبال والوديان وغابات الجوز والبلوط، إلى بيئة مختلفة تماما، من حيث تضاريسها الجغرافية واللغة والعادات والتقاليد. سيدخل مرحلة لم يكن قد دشنها من قبل، مرحلة النفي الطوعي.. يقول «اقترح أقاربي على والدي أن يأخذني قربه إلى السماوة لإبعادي عن نشاطي أولا وعن أنظار الأجهزة الأمنية ثانيا، وبالفعل التحقت بوالدي في العطلة الصيفية لعام 1977، وكان هناك جو سياسي من نوع آخر، حيث السياسيون الأكراد المنفيون، وضمنهم السياسي الكبير حمزة عبد الله، وهو من القيادات الشيوعية المهمة، وكان مقربا من الزعيم الملا مصطفى بارزاني، وقد اتهمه صدام حسين بأنه حلقة الوصل بين بارزاني والاتحاد السوفياتي، وتم تعيينه مديرا لغابات السماوة، ولأنه لم تكن هناك أي غابات في السماوة فقد كان يذهب إلى العمل الساعة الثامنة صباحا ويعود بعد ساعتين إلى البيت، وكنت أمضي جل وقتي مستمعا إليه وإلى الأفكار الاشتراكية وتجاربه وأحاديث سياسية مهمة كان لها الأثر البالغ في تربيتي السياسية».


وهنا يورد برهم ملاحظة غاية في الأهمية، يقول «لقد احتضن أهالي السماوة والدي بمحبة وكرم كبيرين، كما احتضن أهالي محافظات الفرات الأوسط والجنوب الأكراد المنفيين بذات المحبة والكرم».
تحول النفي الطوعي الذي جاء ببرهم من السليمانية إلى السماوة إلى فرصة غنية للاطلاع على تجارب السياسيين الأكراد المنفيين مع والده إلى تخوم الصحراء التي تربط العراق بالربع الخالي من شبه الجزيرة العربية، وما كان يفتقده هذا الناشط السياسي الفتي من دروس نظرية مهمة وجده في بيت المنفيين بجنوب غربي العراق.. يقول «كان البيت الذي يقيم فيه والدي هو محل إقامة غالبية السياسيين الأكراد المنفيين، ويضم شخصيات سياسية مهمة تعلمت منهم الكثير، وكانت أجواء البيت غنية بالنقاشات السياسية والفكرية، وقد أحببت هذه الأجواء، إذ كنت أصغرهم سنا. وفي هذا البيت تعلمت الطبخ».
كانت الروح السياسية التي تسكن برهم تكاد تتفجر مثل بركان لا يقوى أحد على تكميمه، ويصادف أن ينفجر هذا البركان في أول فرصة تسنح له في مدينة السماوة.. يتذكر قائلا «هناك تعرفت على شاب في عمري وكان ابن أحد القضاة من أهالي المدينة وزميل والدي، وذات يوم دخلت مع هذا الشاب في نقاش سياسي حيث تحمست لقضيتي الكردية وتحدثت له عن حقوق الأكراد التي صادرها حزب البعث، وأهمية أن تُمنح لنا حقوقنا، وتهجمت على حزب البعث، إذ كنت شابا ثوريا وكان من الطبيعي أن أتصرف بهذه الطريقة، في اليوم التالي أخبر والد هذا الشاب والدي وقال له إن (ابني بعثي وعضو في الاتحاد الوطني لطلبة العراق، وقد أخبرني بأنه سمع مثل هذا الكلام الخطير من ابنك برهم، وأنا حذرته من أن يذكر ذلك أمام أي أحد، فإذا أنا ضمنت ابني بألا يشي بابنك فكيف سنضمن أن برهم لا يتحدث بنفس المواضيع مع شباب آخرين وهذا خطر عليه وعليك؟!). حدث هذا في الوقت الذي كنت أعمل فيه مع القيادات المنفية على إنشاء تنظيم للاتحاد الوطني الكردستاني للأكراد المنفيين في الجنوب، فما كان من والدي إلا أن قرر إعادتي إلى السليمانية، وقال لي (نحن هنا مرصودون من قبل الأجهزة الأمنية ولا نستطيع فعل أي شيء، ووجودك هنا خطر على حياتك وأنت تطلق هذه الأحاديث، فعد غدا إلى السليمانية وافعل ما تشاء هناك). وبالفعل تركت السماوة بعد شهر واحد من وصولي إليها وأنا أحتفظ لها بذكريات طيبة سواء عن أهلها أو عن المدينة وبحيرة ساوة وغيرهما».




شكل قرار والده نقطة سعادة في حياة برهم الذي سيعود إلى أهله ومدينته وناسه وعمله السياسي.. يقول «عدت إلى السليمانية وعاودت نشاطي السياسي، ومن مهد لي الانضمام إلى العمل التنظيمي السري هو محمد حسين (شقيق سكرتير صالح اليوم) وقد استشهد عام 2003 على أيدي أحد الإرهابيين، حيث كان ضابطا في الشرطة. وتدرجت في العمل السياسي من عضو خلية إلى الخلية الرئيسية في مدينة السليمانية والتي كانت تسمى (لجنة هملت) وهي الخلية المركزية لتنظيمات الاتحاد الوطني، ومن المفارقات أن بيتنا، بيت القاضي، كان قريبا جدا من دائرة الأمن ويقع في منطقة لا يشك بها أمنيا وغير مؤشرة باللون الأحمر في سجلات الدوائر الأمنية وقتذاك، ومع ذلك كان بيتنا يستقبل مقاتلي البيشمركة الجرحى القادمين من (قره داغ) و(جوارتة) حيث يتم إسعافهم في بيتنا، بل الأكثر من هذا أنني كنت أقود سيارة والدي، سيارة الحاكم، من دون علمه، وأنقل فيها البيشمركة والمنشورات الحزبية وبعض رفاقي الذين لا يستطيعون التنقل بسبب المراقبة الأمنية المشددة عليهم».
وإذا كان البعض، أو غالبية من السياسيين الأكراد، يعتبرون أن القتال في صفوف البيشمركة هو بمثابة تعميد للمناضل الكردي واستكمال لتاريخه السياسي، فإن برهم يعترف بقوله «أنا لم أقاتل مع البيشمركة، وهذا لم يكن اختياري بل اختيار الحزب، ففي عام 1979 شددت العناصر الأمنية من مراقبتها لي بسبب حراكي السياسي، لهذا طلبت من المسؤولين أن ينقلوني إلى الجبل حتى لا أتعرض للاعتقال، فجاء الرد بأن الحزب يحتاجك في مدينة السليمانية أكثر من وجودك بالجبل بسبب وضعي الاجتماعي كوني ابن الحاكم وابن عائلة معروفة، ولأنني كنت أوفر خدمات لوجيستية كثيرة من البيت، ثم إنني كنت مسؤولا عن منطقة (جوارتة) والإمدادات في منطقة (قره داغ)، إضافة إلى أدائي لمهمات تتعلق بمراقبة الأوضاع في المدينة».
إلا أن نشاط برهم السياسي لم يتحدد بمدينة السليمانية، بل تعداه إلى العاصمة بغداد، كما يوضح «في عام 1979، وفي عطلة نصف السنة، كنت في الصف السادس علمي، وبعد عودتي من بغداد إذ كنت مكلفا بمهمة حزبية لمتابعة بعض الطلبة الأكراد ولتشكيل خلية حزبية هناك، كما قمت بزيارة بعض زملائنا وأعضاء الحزب المعتقلين في سجن أبو غريب، حيث كان الكثير من رفاقنا معتقلين في قسم الأحكام الثقيلة وآخرون في قسم الأحكام الخفيفة، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت تجلب لي الشبهات فإن الالتزامات الاجتماعية والحزبية دفعتني للقيام بهذه الزيارة..».
مثل هذه النشاطات، الاجتماعات مع الطلبة الأكراد في بغداد، وزيارة السجناء السياسيين الأكراد الذين كانوا مودعين في سجن أبو غريب لم تكن خافية عن أعين السلطات الأمنية، إذ كان اسم برهم متداولا بين الأجهزة الأمنية في السليمانية وبغداد وبقية المدن الكردية، وكان أن وضع في دوائر الرصد الأمنية التي لم تكن تغفل حتى التحركات البسيطة فكيف الحال في فعاليات تشمل زيارة سجناء تصنفهم السلطات الأمنية وقتذاك بالخطرين على أمن الدولة؟ وكان متوقعا بالنسبة لبرهم وعائلته أن يتعرض للاعتقال في أي لحظة بعد عودته إلى السليمانية.. يقول «بعد عودتي من العاصمة تم اعتقالي في السليمانية، وكنا في البيت نتوقع هذا الاعتقال، إذ كان هناك أحد أقاربنا محكوما بالإعدام وينتظر التنفيذ في سجن الموصل، وقد زارته والدتي، وهمس أحد السجناء في أذنها بأن الأجهزة الأمنية عذبته وحققت معه للحصول على اعترافات عني وتدينني، وكان هذا مؤشرا مهما بأنني سأعتقل».
لكن هذا الإنذار لم يؤخر من نشاط برهم السياسي، أو حتى في أقل الاحتمالات يدفعه للدخول في هدنة بينه وبين نفسه لإبعاد أنظار الأجهزة الأمنية عن تحركاته، أو التفكير في الاختفاء المؤقت، لكنه على العكس من ذلك تماما.. يقول «في اليوم الأخير من العطلة كنت قد أخذت سيارة والدي ونقلت مع أحد الرفاق منشورات حزبية وأسلحة من أحد الأوكار لإيصالها إلى مكان آخر، فلاحظت أن هناك سيارة معروفة من قبلنا بأنها تابعة لدائرة الأمن تتابعنا، فحاولت الإفلات من المراقبة والعودة إلى البيت، وبسرعة أخفينا المنشورات والأسلحة، ولو كانوا قد ألقوا القبض علينا ونحن ننقل هذه الأسلحة والمنشورات لكانت العقوبة خطرة وقد تصل إلى الإعدام».
ترى هل كان الفتى برهم على موعد مع يوم اعتقاله؟ هل كان ينتظره؟ هل كان يريد تعميد نضاله السياسي السري الذي بات مرصودا ومعروفا من قبل الأجهزة الأمنية البعثية باعتقال يبارك فيه تاريخه أو استهلال تاريخه السياسي؟ لكنه لم ينتظر طويلا موعد اعتقاله الذي «تم في أول يوم لدوامي في المدرسة بعد نهاية العطلة الربيعية، وبالضبط في شهر فبراير (شباط) عام 1979، وكنت في الصف الدراسي عندما جاء ساعي المدرسة وقال لي إن المدير يطلبك، فذهبت إلى مكتب المدير، الأستاذ شوكت، وكان يبدو عليه القلق بوجود ثلاثة أشخاص في مكتبه، استطعت أن أميزهم بأنهم من منتسبي دائرة الأمن، فقال لي أحدهم (لدينا استفسار بسيط، ستأتي معنا لنصف ساعة فقط وتعود إلى مدرستك)، وطلبوا أن يأتي الساعي بحقيبتي المدرسية، كنت قلقا لأنني كنت أخبئ في جيب سروالي رسالة حزبية لففتها لتبدو مثل قطعة حلوى مغلفة، إذ كنت أفكر في طريقة للتخلص منها. وصلنا إلى دائرة الأمن ووضعوني في زنزانة وحدي قبل أن يتم تفتيشي بدقة، لأنهم لم يتوقعوا أنني أحمل أي شيء مهم أو خطير، لا سيما أنهم اقتادوني من الصف، وهناك تخلصت من الرسالة بطريقة ما».
ويؤيد أستاذه عزيز هذه الحادثة، قائلا «اعتقل برهم سنة 1979 بعد نهاية عطلة نصف السنة، وقد أحزننا ذلك من جهتين، الأولى أن أحد أبناء شعبنا والذي كان ضمن تنظيمات السليمانية للاتحاد الوطني الكردستاني معتقل، ومن الممكن ألا نراه مرة أخرى، والثانية أننا سنفقد طالبا ذكيا كان محل فخر واعتزاز لكردستان».
كان هذا التعارف الأول بين برهم والأجهزة الأمنية، اللقاء الأول عن قرب، وهو أيضا الاختبار الأول لقابليات صمود الشاب أمام وسائل القمع النفسي والجسدي على حد سواء.. يقول «بدأوا يحققون معي وقالوا لي إن لديهم معلومات دقيقة عن تحركاتي ونشاطي، وإن هناك اعترافات من سجناء هم رفاق لي وتدينني، ثم نقلوني إلى الهيئة التحقيقية الخاصة في كركوك، وكنا نعرف مدى الرعب الذي تشكله هذه الهيئة وهذا المكان الرهيب، وهو المكان الخاص بالتحقيق مع من يشكون في انتمائهم للثورة الكردية، حيث يضم أعتى أجهزة التعذيب وأكثرها قسوة».
ترى أي أفكار وصور خامرت الروح الغضة للفتى الذي يدشن خطواته نحو أقبية التعذيب في باستيل كركوك، والمعروف من قبل الأكراد بوحشية القائمين على وسائل التعذيب فيه، هؤلاء الذين لا تأخذهم أي رقة أو رحمة بالمعتقلين خاصة إذا كانوا من الأكراد ومهما كانت أعمارهم.. يتذكر بمرارة، قائلا «تعرضت للتعذيب القاسي. كانت تجربة مرعبة بالنسبة لفتى في الـ18 من عمره، تعلمت من هذه التجربة أن الشعور بالحرية أرقى ما في الوجود، وأنه لا أحد يشعر بهذه الحرية إلا من سلبت منه، وأن السجن يجعل الإنسان المعتقل لأسباب سياسية خاصة، أمام امتحان صعب وقاس، فإما أن يبقى محافظا على صلابته وقيمه ومبادئه ويرفض الاعتراف والوشاية بالآخرين، أو ينهار ويتخلى عن كل مبادئه»، خاصة إذا عرفنا أن هناك سياسيين كبارا انهار بعضهم أمام وسائل التعذيب وممارساتها، لكن برهم استجمع قواه الفتية، واستذكر معاناة أهله من الأكراد، وكان لا بد من صموده كي يخرج مفاخرا بنفسه، رافعا رأس والده ووالدته، ومحتفظا ببداية ناصعة لتاريخه السياسي.. يقول «استطعت أن أعرف إمكانياتي في التأقلم والتحمل، فعندما وصلت إلى بناية هيئة التحقيق الخاصة سألت نفسي: كيف سأتحمل التعذيب والإهانات والحرمان والوساخة والروائح القذرة المنبعثة من أقبية تتعفن بها الدماء والأجساد، وأنا ابن عائلة مترفة ومدلل ومتعود على نمط مترف من الحياة، لكنني تحملتها وتحديت الصعوبات والحمد لله، وهذه التجربة تعيش معي حتى اليوم إذ تعلمت منها كيف يجب أن أتعامل مع ملفات المعتقلين والسجناء سواء في بغداد أو كردستان، وأن أتابعهم وأضمن حقوقهم ولا أظلم أحدا».
والى جانب ذلك اكتشف برهم «أن هناك من يستمتع بتعذيب الآخرين بقسوة، إذ كانوا يضربون شيخا في الخامسة والسبعين من عمره أمامي، كانوا يضربوه بقسوة كل يوم ويستمتعون بالأنين الخافت المنبعث من روحه المتعبة».
ويشهد خبات الشيخ جناب، وهو أحد بيشمركة كردستان القدامى، على فترة اعتقال برهم صالح في معتقل الهيئة التحقيقية في كركوك. وتعود معرفة الشيخ جناب ببرهم إلى عام 1976 ويقول «كنا في مدرسة الخالدية عام 1976، وأتذكر أنه كان هناك عرض مسرحي بعد أيام من إعدام خاله شهاب، وكان برهم شابا وسيما يرتدي ملابس أنيقة ويجلس هناك، وفجأة نهض واقفا وردد شعارات حماسية، وسرعان ما هجم عليه المتنفذون وألغيت المسرحية، وخرجنا أنا وشوان (شوان رؤوف نوري الذي قتل فيما بعد) وحمة حسين (هو الآخر قتل على أيدي سلطات النظام السابق) من القاعة، وفي الطريق قال حمة حسين الذي كان يحب برهم كثيرا (لا أعرف لماذا يتصرف هذا الرجل - برهم - هكذا؟ لماذا يتسبب في سجنه؟) وبعد ذلك بأيام التحقت بالبيشمركة ولم أر برهم حتى عام 1978، ومن ثم في عام 1979 عندما كنت معتقلا في هيئة كركوك».
ويتحدث الشيخ جناب بكثير من التأثر عن هذه الفترة، قائلا «في هيئة كركوك كنا مع آزاد (قتل لاحقا) وكاك خالد (ابن أخت صلاح جاوشين) في زنزانة واحدة، ولم يكن عندنا من مشاغل أو أمل سوى أن ننظر من خلال بعض تشققات الجدار لنرى ما يحدث، أو من هو الزائر الجديد من المعتقلين. فجأة شاهدنا عناصر الأمن وهم يقتادون معتقلا جديدا وقد عصبوا عينيه بعد أن أذاقوه الضرب والتعذيب، وهم في طريقهم إلى باب زنزانته، وحين أمعنت النظر عرفت أن ذلك المعتقل ليس سوى ذلك الشاب الوسيم برهم صالح».
ويستطرد قائلا «كانت زنزانتنا قريبة من غرفة التعذيب لذلك كنت أسمع بوضوح صرخات الذين كانوا يُعذبون. على ما أتذكر فإنهم قد أخذوا برهم إلى غرفة التعذيب بين 6 إلى 7 مرات، وعذبوه كثيرا».
وأضاف الشيخ جناب قائلا «بعد فترة طويلة من بقائي في الزنزانة الانفرادية نقلوني إلى جانب السجناء الآخرين، ورأيت برهم صالح مرة أخرى فهو لم يعترف بشيء على الرغم من التعذيب الذي تعرض له، لذلك أعادوه إلى السليمانية».
ومن المواقف الطريفة التي ما زالت عالقة في ذاكرة شيخ جناب، رغم مرارتها، والتي حدثت خلال التحقيق معه في هيئة كركوك، يروي قائلا «في إحدى المرات جلبونا أنا والملا علي (قتل فيما بعد)، وبعد ضرب مبرح، إلى التحقيق، قلت للحاكم (سيدي أنا من أسرة شريفة ولم نقم في وقت من الأوقات بعمل سيئ)، فشتمني الحاكم وقال (ها هو ابن الحاكم أحمد - ويعني برهم أحمد صالح - يقوم بأعمال سيئة، وأنت تقول أنا شريف؟».
ويذكّر خبات الشيخ جناب بالدور المهم الذي كان يلعبه برهم، فيقول «لم يكن الدور الدبلوماسي الذي كان، ولا يزال يلعبه صالح، أقل من نضال البيشمركة في الجبال، لأنه استطاع أن يحصل للكرد على العشرات من الأصدقاء الذين كنا متلهفين إلى صداقتهم منذ سنين».
بدوره، يروي جمال محمد رشيد، المعروف بـ«جمال ديمقراط»، الذي كان منذ عام 1972 عضوا ناشطا في الكوملة (الكوملة تعني العصبة أو عصبة الماركسية اللينينية، ثم صارت عصبة كادحي كردستان)، ذكرياته مع برهم صالح قائلا «تعرفت إلى برهم عن طريق (خسرو عبه رش) الذي كان اسمه السري (جوتيار). كان برهم وقتذاك شابا نشيطا ومحبوبا. كنت خائفا عليه خلال تعرفي عليه، فقد ثقف نفسه جيدا من حيث الفكر، وكان مخلصا إلى أبعد حد بحيث كانت السيارات آنذاك قليلة وكان برهم ينقل بسيارة والده البيشمركة الذين يقومون بعمليات داخل المدينة في وقت كان فيه منزل عائلته بجوار دائرة أمن السليمانية».
ويضيف قائلا «كان لأسرة برهم دور رئيسي في تطور عمليات القطاعات داخل المدينة. أتذكر أنني ذهبت مرة إلى منزل عائلته ولم أكن أعرف أنه كان معتقلا، طرقت الباب ففتحت والدته، وقالت لي من دون أن يبدو عليها أي تأثر لحادث اعتقال ولدها (لماذا أتيت؟) قلت: أريد أن أرى برهم فقالت (لقد اعتقلوه. أما أنت فاذهب بسرعة واختف قبل أن يعتقلوك)»، منوها بصمود برهم في السجن، بقوله «على الرغم من كل ذلك التعذيب تحمل برهم بشجاعة ولم يعترف بشيء وبعد أن عرفوا أنهم لن يحصلوا منه على شيء، أطلقوا سراحه».
هذا أول الأحداث القاسية التي وشمت ذاكرة برهم وشما لم تستطع سنوات الحرية فيما بعد أن تمحوه.. يقول «كانت بناية الهيئة وسجنها يقعان ضمن معسكر خالد في كركوك، وقد زرتها في الأيام الأولى لتغيير النظام، وكانت قد تحولت إلى قاعدة للقوات الأميركية، لكنني لم أستطع تحديد موقع الزنزانة التي كنت فيها لأنهم كانوا يعصبون عيني. هناك يوم كنت نزيلا قسريا في هذا المكان سابقا».
يتحدث جمال علي أحمد عن تجربته مع برهم صالح في معتقل الهيئة التحقيقية في كركوك، قائلا «في الحقيقة لم أكن أعرف برهم عن قرب، لكنني كنت أعرف أسرته، حيث كان ابن الحاكم أحمد والسيدة روناك، وقد كانوا مهتمين بالثورة الكردية. وعندما اعتقلت عام 1979 وبعد التحقيقات الأولية في السليمانية نقلوني إلى هيئة كركوك، وعند وصولي عصبوا عيني وأدخلوني إلى غرفة، أتذكر جيدا أننا كنا في شهر مارس (آذار) وكان الجو باردا، وعندما دخلت الغرفة أحسست بهواء دافئ، سألوني باللغة العربية: ما اسمك وأين تسكن؟ فقلت، اسمي جمال، وقد أتيت بنفسي إلى هنا فضربوني على جبيني فوقعت، وعندما نهضت كان أول أسئلتهم لي هو: هل تعرف برهم؟ فقلت، لا أعرفه. وكنت لا أعرف أنه معتقل».
يستطرد قائلا «بعد ذلك نقلوني إلى زنزانة لم أكن أعرف فيها أحدا. وبعد أيام جاءوا وأخذوني إلى غرفة التعذيب وهناك علقوني وصعقوني بالكهرباء، فتبين لي أنهم إذا كرهوا شخصا يربطون قناني الغاز برجليه. سألوني مرة أخرى: هل تعرف برهم؟ قلت لا أعرفه. وبعد فترة غيروا غرفتي وتبين لي هناك أن برهم معتقل في الغرفة المجاورة».
يقول «في المرة الثالثة التي أخذوني فيها للتعذيب كنت مع برهم وكانت تلك المرة الأولى التي أراه فيها. في الحقيقة كان يتمتع ببنية جسمانية صلبة لذلك فقد كانوا يعلقونه ويضربونه أكثر مني، وحين يغمى علينا كانوا ينزلوننا ويعلقون رجلينا بعمود ويضربوننا بالكابلات بحيث لم نكن قادرين على النهوض فتتم إعادتنا إلى غرفنا سحبا. وقد ذقنا أنا وبرهم هذه الضربات لمرات كثيرة».
ويروي جمال قائلا «أتذكر أنني في إحدى المرات كنت أغسل وجهي فأشار إلي أحدهم من الغرفة المجاورة بيده من تحت الباب، فأشرت إليه أنا أيضا، فانهال علي الحراس بالضرب في ساحة السجن، وعندما أطلق سراحنا قال لي برهم صالح (كنت الشخص الذي يشير إليك بيده لأنني كنت أريد أن أعرف من هو هذا الشخص الذي يغسل وجهه بيد واحدة».
التجربة الثانية، المواجهة الثانية بين صالح والسلطات الأمنية ستأتي لاحقا، فحادثة اعتقاله والتحقيق معه في كركوك لم تكن الأخيرة، بل ستتبعها حادثة أخرى كادت تودي بمستقبله الدراسي والحياتي.. يقول «بعد أشهر قليلة من إطلاق سراحي من معتقل كركوك وعندما لم يجدوا عندي ما يريدونه من اعترافات، اعتقلت مرة أخرى حيث قضيت 43 يوما في ضيافة الأجهزة الأمنية وقتذاك، وعندما أطلق سراحي كان أمامي شهر واحد للتحضير لامتحانات البكالوريا النهائية وأنا في الصف السادس علمي، وقبيل الامتحان بأسبوع اعتقلت مرة ثالثة في الاستخبارات العسكرية، وكان اسم ضابط الاستخبارات الذي حقق معي هو النقيب عبد».
وبكثير من التفصيل يروي صالح ما تبقى في ذاكرته عن هذا الاعتقال «كنت أدرس مع صديقي فوق سطح بيتهم، حيث كان الوقت صيفا، وكنا نتهيأ للامتحانات النهائية، وعند الساعة الثالثة فجرا، وقبيل أن أخلد إلى الفراش، تم تطويق بيت صديقي من قبل القوات الخاصة، ودخلت عناصرهم وقالوا لي (برهم أحمد.. امش معنا)، ثم قيدوني وأخذوني معهم إلى خارج البيت، وعندما صرنا في الشارع فوجئت بأن المنطقة كلها محتلة من قبل القوات الخاصة، وعندما أقول القوات الخاصة فاعني القوات الخاصة في عهد صدام حسين وهي معروفة بقوتها وببطشها، حيث باشروا يضربونني ويوجهون لكماتهم إلى وجهي، ولن أنسى ما حييت منظر أمي عندما شاهدتها تركض حافية القدمين باتجاهنا، كنت قد أجبرت على الصعود إلى إحدى سياراتهم (بيك آب)، وعندما وصلت أمي قالت لي (برهم ابني أتمنى ألا تخذلني)». ويتحدث برهم عن والديه، مستهلا بوالدته، قائلا «والدتي لم تكن محجبة بل سافرة وناشطة نسائية وتعمل في السياسة، وساندتني على الرغم من قلقها علي. أما والدي فقد كان قلقا جدا ويتابعني باستمرار، لكن وضعه كان حرجا للغاية، فهو قاض، وابنه تعرض للاعتقال والتحقيق بسبب انتمائه للثورة الكردية، ومنفي، حيث بقي والدي منفيا خارج مدينة السليمانية وكردستان لأربع سنوات (1975 حتى 1979)».

الشرق الأوسط

25‏/09‏/2010

في مفترق الطرق (1).. مذكرات الدكتور برهم صالح





من موقع سياسي إلى موقع آخر أعلى، يتنقل الدكتور برهم أحمد صالح، نائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكوردستاني الذي يتزعمه رئيس الجمهورية جلال طالباني.
ففي نهاية 2009 تم تكليفه من قبل رئيس إقليم كوردستان، مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكوردستاني، برئاسة حكومة الإقليم على خلفية فوز قائمة التحالف الكوردستاني في انتخابات الإقليم التشريعية. وترتب على ذلك مغادرته لمنصب نائب رئيس الحكومة العراقية الذي شغله مرتين. لقد ظهر صالح كسياسي عراقي عام 2003، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وباعتباره نائبا لرئيس أول حكومة في العراق الجديد، شكلها الدكتور إياد علاوي.

وكان صالح قد دشن حياته السياسية كمسؤول حكومي للمرة الأولى عام 2001 عندما كلفته قيادة حزبه برئاسة حكومة كوردستان في السليمانية، ثم نائبا لرئيس الحكومة العراقية، ووزيرا للتخطيط والإنماء في حكومة إبراهيم الجعفري عام 2005، فنائبا لرئيس الحكومة العراقية للمرة الثانية في حكومة نوري المالكي.

هذه المسؤوليات كانت تحديا لإمكانات المهندس الشاب، برهم صالح، الذي حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة كارديف 1983، والدكتوراه من جامعة ليفربول 1987، وكلتاهما في بريطانيا، في علوم الهندسة والإحصاء وتطبيقات الكومبيوتر، بينما خبرته العملية استندت إلى عمله مهندسا استشاريا لإحدى الشركات الأوروبية، وهذا ما منحه خلفيتين في العلوم والاقتصاد، ومكنه بالتالي ليكون مسؤولا ناجحا في كل المسؤوليات التي أنيطت به.

إلا أن صالح، الذي بدأ مشواره السياسي مع حزبه مبكرا، وهو ابن القاضي المعروف في السليمانية، أحمد صالح، كان دائما يجد نفسه وخياراته أمام مفترق الطرق، وكان يجتاز هذه المفترقات بنجاح اعتمادا على ذكائه الذي عرف به منذ كان طالبا في الدراسة. وعبر لقاءات أجرتها «الشرق الوسط» مع رئيس حكومة إقليم كوردستان، ما بين أربيل والسليمانية، تحدث إلينا صالح عن مفترقات الطرق التي مر بها في حياته.

على العكس من غالبية القادة السياسيين الأكراد، لم يولد برهم صالح، السياسي الكوردي ورئيس حكومة إقليم كوردستان سياسيا، من رحم الجبل. فهو لم يحمل بندقيته كمقاتل في صفوف البيشمركة متنقلا بين شعاب ووديان جبال كوردستان العراق. وفي اللحظة الحاسمة التي وجد فيها صالح نفسه عند مفترق طرق، وخيارات، أسهلها صعب للغاية على نفسه، اختار وبفضل ذكائه المبكر الذي عرف به منذ طفولته، أن يترك العراق لإكمال دراسته الجامعية ودراساته العليا في أوروبا، وبالذات في إنجلترا، غير هذا كان عليه أن يلتحق بالثورة الكوردية في الجبال، أو أن يستسلم لأجهزة امن النظام السابق. وباختياره هذا بشر هذا الشاب الذي عمل في السياسة وخاض غمار النضال من أجل قضيته الكوردية منذ فتوته، بولادة نمط جديد، ومتطور من القادة السياسيين الأكراد، نمط عرف كيف يجمع بين التفوق العلمي والعمل السياسي. فهو لم يضح بإنجازاته العلمية والدراسية على محراب السياسة، كما لم يهدر تاريخه السياسي والإيمان بقضية شعبه من أجل العلم والمعرفة التي وظفها لتطوير قدراته القيادية التي ستميزه لاحقا.
ولعله السياسي الكوردي الوحيد الذي أمسك بمهارة تفاحتي العلم والعمل السياسي بيد واحدة، هاتان الصفتان امتزجتا في شخصية موهبتها القيادة والحضور، الحضور الذي أوجد في الساحة السياسية العراقية ظاهرة النجم السياسي من غير أن يسعى أو يخطط لها، فأينما وجد، خاصة بين طلبة الجامعات، تجد الشباب يتحلقون حوله لالتقاط صورة تذكارية معه، أو الحصول على توقيعه، مع أنه يتعامل مع هذه الظاهرة بروح متواضعة، بل وخجولة في أغلب الأحيان.

حياته المهنية والسياسة ستتميز فيما بعد بعدد من مفارق الطرق، والخيارات التي حسم ما فات منها بنجاح ومهارة مزجت بين ما هو علمي وسياسي وإنساني، وهو يأمل أن يحسم ما سيأتي لاحقا بذات الطريقة.

ولعل حياته العاطفية، أو العائلية، المحطة الفارقة الوحيدة في تاريخه التي وجد نفسه فيها أمام طريق، أو خيار واحد لا ثاني له، ذلك عندما التقى المرأة التي قرر أن تكون شريكة حياته ودربه منذ المرة الأولى، وهو اختيار لم تتدخل فيه الحسابات العلمية، ولا المفاجآت السياسية، ونجح فيه بفعل انتصار العاطفة وهواجسها.

وإذا كان برهم صالح، كشخصية سياسية، قد تسلسل في ظهوره في بيئته الأصلية، كوردستان، وبالذات في مدينته السليمانية منذ عام 1991، فإن هذه الشخصية الظاهرة كانت مفاجئة جدا، وللغاية بالنسبة للعراقيين ككل وذلك عندما انطلق كسياسي عراقي من بغداد بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003، إذ وجد السياسي الكوردي الشاب، غير المعروف شعبيا على مستوى العراق، نفسه في خضم أحداث سياسية هائلة تتلخص بتغيير نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، هذا النظام الذي عرف على مدى أكثر من ثلاثة عقود بشموليته، ومغامراته التي غيرت أحداثا محلية وعربية وأثر بأخرى عالميا. يضاف إلى ذلك أن هذا التغيير لم يأت بفعل وطني، أي ليس من قبل فصائل عراقية بل بفعل احتلال القوات الأميركية للعراق، وهذا ما يعطي الأحداث بعدا تراجيديا خطيرا يتطلب وجود قادة وسياسيين كبار لهم مراسهم الصعب مع العمل السياسي وعبر تجارب تاريخية جبارة. وبين هذه القيادات التاريخية والمعروفة من خلال عملها في المعارضة العراقية، كان حضور صالح، ترى هل كان حضوره هذا، في زمان ومكان معينين، قدريا؟ أم مخططا له؟ أو أنه كان على موعد مع فرصته التاريخية التي سوف يشغلها بكل مساحاتها الجغرافية والعملية ليؤسس له حضوره المناسب واللائق به.

وفي خضم هذه الأحداث وبين هذه الشخصيات تألق نجم السياسي الشاب برهم صالح، وسرعان ما عرف كقائد سياسي عراقي أكثر منه كورديا، ومع أن الفرصة التي أتيحت له كانت قد أتيحت، وربما بقدر أكبر لغيره من السياسيين العراقيين، فإن بعضهم غابوا في ظل الشخصيات القيادية الأخرى، أو ذابوا في محاليل أحزابهم أو مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم.

لكن برهم صالح لم يستظل بالوجود الكبير لقائده السياسي والقومي جلال طالباني الذي دعم ظهور وتقدم صالح، بل استفاد من خطى وتجارب قائده المحنك، وبقي على مسافة تحفظ قامته بوضوح، ولم يتحلل في سيادة المشاعر القومية الكوردية، على الرغم من أنه كوردي وابن عائلة كوردية عريقة، بل بقي يُذكر العراقيين ومن خلال لغته العربية السليمة جدا والمشوبة بلهجة جنوبية، بأنه عراقي مثله مثل عراقيي البصرة أو النجف أو الأنبار أو ديالى، وأنه ابن بغداد التي بادلها مشاعر الحب، مثلما هو ابن السليمانية، والأهم من هذا وذاك هو أن المناصب التي تقلدها في الحكومة العراقية، على أهميتها، لم تبن حاجزا بينه وبين الناس، سواء في إقليم كوردستان، أو في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى.

وإذا أردنا أن نتحدث عن وعود العراق الجديد في الديمقراطية، والحرية، وبناء عراق اتحادي يتسع لجميع مكوناته وأطيافه الدينية والقومية والسياسية، فإننا سنؤشر وبوضوح، بروز برهم صالح كسياسي عراقي، وباعتباره واحدا من أبرز وجوه العراق الجديد، عراق ما بعد 2003.

على الرغم من أن برهم صالح ولد، عام 1960، في عائلة ميسورة، فإنه لا يتذكر أي بقايا طعم ملعقة من ذهب كانت في فمه، فهو «من أسرة الحاج صالح قاسم من أبيه ومن أسرة ساحبقران من أمه، وهما أسرتان وطنيتان، وعريقتان من مدينة السليمانية»، ويشار إلى والده أحمد صالح باعتباره كان قاضيا عادلا ونزيها، ومناضلا سياسيا، بينما عرفت أمه كونها ناشطة نسائية عرفت بمواقفها الصلبة. يسترجع برهم صالح الأوراق الأولى من دفاتر حياته، فيقول: «أنا ترعرعت في عائلة مسيسة أصلا، والدي كان قاضيا ووالدتي سياسية أو مسيسة حيث كانت ناشطة فاعلة في مجال العمل النسوي، والجو العام في مدينة السليمانية كان وقتذاك مسيسا بسبب الاضطهاد الذي كان يعانيه الكورد».

يفيد صالح قائلا: «ولدت عام 1960 في بيت جدي في محلة (برخانه قا) إذ حولت العائلة البيت الذي ولدت فيه إلى دار للعرض السينمائي، واليوم تحولت السينما إلى مركز تجاري (مول)، وكان عمري خمس سنوات عندما انتقلنا من هذا البيت الذي أتذكره، حيث كان طرازه شرقيا، بيت واسع تتوسط فناءه الداخلي نافورة وحديقة، ومفتوح على الفضاء، وانتقلنا إلى بيتنا الجديد وقتذاك في محلة شورش في السليمانية والذي ما تزال والدتي تقيم فيه وكنت أنا أقيم فيه إلى وقت قريب».

ولا يخفي صالح أنه ولد في عائلة ميسورة، «العائلة كانت ميسورة، والدي رحمه الله كان قاضيا ومن عائلة تملك عقارات ووالدتي تنحدر من عائلة متوسطة».

عرف عن الفتى برهم تفوقه الدراسي، كما ذكر أستاذه فهمي أمين عزيز، الذي عمل لـ41 عاما في مجال التربية وخدم لمدة 38 عاما كمدرس ومدير مدرسة شورش التي كان قد درس فيها الطالب برهم، وكما تؤكد والدته، وهو ينسب تأثير والده في تفوقه العلمي، يقول «الأثر الكبير في تفوقي يعود إلى والدي وهو خريج كلية الحقوق في جامعة بغداد عام 1952 والذي كان يهتم كثيرا بدراستي وتوجيهي للقراءة وقد كنت متفوقا منذ السنة الأولى التي دخلت فيها إلى المدرسة، إضافة إلى أن والدي كان يحثني ويشجعني على قراءة الكتب غير المدرسية وكان كثير السفر إلى بغداد وغالبا ما كانت هداياه لي عبارة عن كتب باللغة العربية ومن هنا كان اهتمامي مبكرا بهذه اللغة».

للطبيعة أثرها في نشأة برهم الذي أمضى سنوات طفولته الأولى في منتجع شقلاوة التابع لمحافظة أربيل، وهو مصيف يختبأ في واد بين الجبال الشاهقة، ومؤثث ببساتين الكروم والتوت والجوز والمشمش.

يقول: «دخلت المدرسة الابتدائية في مدينة (منتجع) شقلاوة حيث كان والدي قاضيا فيها، ودرست باللغة الكوردية، ولي ذكريات جميلة عن هذه المدينة التي تختفي بين البساتين ومزارع الكروم، وهي واحدة من أجمل المصايف في كوردستان، وبقيت في هذه المدرسة حتى السنة الثالثة، وقد شجعني والدي في تلك الفترة على الاهتمام بالثقافة الكوردية وقراءة الشعر الكوردي إلى جانب تشجيعه لي على دراسة اللغة العربية لهذا انتقلت بعد السنة الثالثة إلى مدرسة عربية في مدينة السليمانية».
عرف عن والده تمسكه بمبادئه التي لم يهادن عليها، فهو ضحى بعمله السياسي من أجل القضاء الذي عمل في حرمته إذ لم يكن له أن يجمع بين القضاء ونزاهته وبين تأثيرات السياسة والأحزاب، يوضح برهم قائلا: «كان والدي سياسيا وتخلى عن العمل الحزبي لممارسة القضاء لكنه بقي مهتما بالقضية الكوردية، وكان عليه أن يتحمل التحديات باعتباره قاضيا، وأن لا يخضع للضغوط الأمنية، لهذا تحمل النفي والضغوطات الكثيرة، وأتذكر أنه غالبا ما كان يردد أن أكبر خطأ ارتكبناه هو أننا تظاهرنا ضد الحكم الملكي وكان يتحسر على العهد الملكي، وأن آمالنا في أن يحترم العهد الجمهوري القضاء والقوانين انهارت بسبب تدخل الجيش بالسياسة والقضاء وتوالي الانقلابات والكوارث على البلد». ومن يتتبع الحياة الاجتماعية لبرهم صالح سوف يتأكد أن طبيعته لم تتغير منذ طفولته، فهو اليوم ما يزال محبا لأصدقائه، وحريصا على تكوين علاقات اجتماعية متميزة تماما مثلما كان في طفولته.
وبدوره يتحدث صالح عن هذه الطفولة اعتمادا على ما سمعه من والدته، فيقول: «حسبما تذكره لي والدتي فإنني في طفولتي لم أكن مشاكسا بل اجتماعيا ولي عدد كبير من الأصدقاء على عكس الطلبة المتفوقين في دراستهم والذين ينصرفون إلى الدراسة فقط، وكنت أحب أن ألعب وألهو مع أصحابي. وحسب بعض أساتذتي فإني كنت طالبا هادئا حتى الدراسة المتوسطة إذ تغيرت الصورة إلى طالب يتحرك كثيرا ولا يعرف الهدوء».

وإذا كان غالبية من الناس يشيرون إلى ظواهر جغرافية أو أحداث اجتماعية أو متغيرات تاريخية تقترن بوعيهم الحياتي، فإن صالح يقرن هذا الوعي بحدث سياسي كاد أن يكون مهما ومغيرا في تاريخ العراق: «ارتبط وعيي السياسي مع التوقيع على اتفاقية 11 مارس (آذار) 1971». أو ما تسمى باتفاقية الحكم الذاتي للأكراد التي تم توقيعها بين الحكومة العراقية والزعيم الكوردي الراحل ملا مصطفى بارزاني، وفيها اعترفت الحكومة العراقية بالحقوق القومية للأكراد مع تقديم ضمانات لهم بالمشاركة في الحكومة العراقية واستخدام اللغة الكوردية في المؤسسات التعليمية، ولكن لم يتم التوصل إلى حل حاسم بشأن قضية كركوك التي بقيت عالقة في انتظار نتائج إحصاءات لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في هذه المدينة. وقد تم التخطيط لإجراء تلك الإحصائية المهمة عام 1977 ولكن اتفاقية مارس كانت ميتة قبل ذلك التاريخ حيث ساءت علاقات الحكومة العراقية مع بارزاني وخاصة عندما أعلن الزعيم الكوردي رسميا حق الأكراد في نفط كركوك. واعتبرت الحكومة العراقية إصرار الأكراد بشأن كوردية كركوك كإعلان حرب وهذا ما دفع الحكومة العراقية في مارس 1974 إلى إعلان الحكم الذاتي للأكراد من جانب واحد فقط دون موافقة الأكراد الذين اعتبروا الاتفاقية الجديدة بعيدة كل البعد عن اتفاقيات سنة 1970 حيث لم يعتبر إعلان 1974 مدينة كركوك وخانقين وجبل سنجار من المناطق الواقعة ضمن مناطق الحكم الذاتي للأكراد، بل إن الحكومة العراقية ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما غيرت الاسم التاريخي لمحافظة كركوك إلى محافظة التأميم.

لقد سبق الوعي السياسي لصالح تدشينه للعمل السياسي الفعلي وهو في الرابعة عشرة من عمره، «مع انتسابي إلى اتحاد طلبة كوردستان في السليمانية عام 1974 أي عندما كان عمري 14 سنة، وكان العمل في هذه المنظمة سريا بسبب القتال الذي اندلع بين مقاتلي الثورة الكوردية والقوات الحكومية، وقد التحقنا في ذات العام بوالدي الذي كان عضو محكمة الاستئناف في الإدارة الكوردية التي شكلتها الحركة الكوردية عام 1974 في منطقة حاج عمران وقد ذهبنا كلاجئين إلى مدينة ناغدة في إيران».

يدلي معلمه عزيز، بشهادته عن هذه الفترة، يقول «في الثورة الكوردية عام 1974 فرت مئات الأسر من كوردستان إلى الحدود» وكانت أسرة الحاكم أحمد، والد الدكتور برهم إحدى تلك الأسر، مستطردا: «ويظهر ذلك جليا أن برهم ذا الـ14 عاما تعرف إلى أجواء الثورة الكوردية والدفاع عن الحقوق المشروعة للكورد منذ وقت مبكر للغاية وانغمست هذه الفكرة في روحه الغضة بسبب أفكار والده الوطنية».

لكن الثورة الكوردية التي كانت تواجه بمقاتليها (البيشمركة) وبأسلحتهم المتواضعة جيوش الحكومات العراقية المتعاقبة، انهارت في مجابهة تعاون قوة دولتين لإجهاضها، العراق وإيران وذلك من خلال توقيع اتفاقية الجزائر من قبل شاه إيران محمد رضا بهلوي وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي وقتذاك والتي تنازل فيها العراق عن الكثير من حقوقه في الأرض والمياه من أجل توقف إيران عن دعم الثورة الكوردية ومحاصرتها.

يقول صالح: «في عام 1975 وبعد انهيار الثورة الكوردية بسبب اتفاقية الجزائر عدنا إلى السليمانية وانتميت إلى منظمة سرية، لم تكن توجهاتنا واضحة لكن كل واحد فينا كان يبحث له عن دور لمقاومة النظام الذي كان يحكم باستبداد وبقوة الحديد، حتى وجدت نفسي في انتمائي إلى التنظيمات السرية للاتحاد الوطني الكوردستاني في أواخر 1976، أي بعد عام من تأسيسه، بزعامة جلال طالباني، بدافع العمل من أجل تحرير العراق وكوردستان وإنهاء الحكم الفاشي».

ويدلي مدرسه عزيز بمعلومة عن هذه الحقبة، قائلا: «كما سمعنا، فإن برهم التحق بصفوف الاتحاد الوطني الكوردستاني عام 1976، ولكن كان ذلك بحسب علمي بعد عودتهم إلى كوردستان، لأنه التحق بمدرستنا. وكان من أذكى طلابنا».

بالتأكيد لم يكن الفتى برهم يفكر وقتذاك، وهو ابن الرابعة عشرة من عمره، في أنه سيكون قائدا سياسيا من طراز خاص عندما راح يعمل بجد في العمل السياسي، وهذا العمل لم يكن مجرد لعبة بل كان مغامرة خطرة، ففي حمأة بطش السلطات الأمنية وقتذاك كان يمكن أن يفقد حياته، على الرغم من أنه كان يمكنه أن يهنأ بحياته الميسورة، لا سيما وهو الولد الذي يفترض بأنه كان مدللا في عائلته، وكان يمكنه أن يختار مغامرة أو لعبة أكثر أمنا واطمئنانا لا سيما أنه يعرف ويدرك بوضوح نتائج ما هو ذاهب من أجله، لكن المسألة بالنسبة له ولدت كفكرة نضالية من أجل ناسه وأهله، يقول: «كانت أجواء العنف هي الغالبة فلم يكن في الحسبان تبوء منصب سياسي حكومي في المستقبل بأي شكل من الأشكال. وكشاب يافع لم يكن عندي سوى الدافع الثوري الوطني لا سيما أن قسما من زملائي الذين التحقوا بالثورة الكوردية استشهدوا وقسما آخر تم اعتقالهم وتعذيبهم».

وهذا لا يعني أنه كان مجردا من أي طموح سياسي، يقر قائلا: «لا أريد أن أقول إنه لم يكن عندي طموح قيادي، وهو طموح مشروع لكل سياسي، ولكن الطموح الأهم والأكبر كان هو التفاني في خدمة الثورة والمقاومة والقضية»، مستدركا: «لم يكن عندي طموح لأن أكون في هذا الموقع (رئيسا لحكومة إقليم كوردستان) ولا في المواقع السابقة التي تبوأتها».

الظروف السياسية هي التي رافقت مقادير الفتى برهم، وهذه الظروف هي التي رسمت له واقعه الراهن، وشكلت درب مستقبله، وكانت في مقدمتها قضيته الكوردية وقضية أهله وناسه، وشاءت الصدف أن تتلاءم هذه الظروف مع الفترة العمرية التي يمر بها، وهي سنوات المغامرة واكتشاف الذات والتحدي من غير حسبان عواقب ما سيجري، والشعور بالتمايز والتفوق وكأن التفوق الدراسي لم يكن كافيا لإشباع ذاته الطموحة. يقول: «أول حدث سياسي واجتماعي كبير أتذكره هو اتفاقية مارس التي غيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية في كوردستان، إذ تميزت السنوات ما بين 1972 و1973 بالحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، وهي فترة رائعة آنذاك، وكنت في السليمانية وقد شجعت هذه الظروف الكثير من شباب جيلي، وأنا من ضمنهم، على العمل السياسي المبكر».

ومرة أخرى يجد برهم نفسه أمام مفترق جديد يجبره على أن يغير خططه ودروبه، لكنه مفترق سوف يزيد من إصراره على مواصلة طريقه في العمل السياسي، بل ويتناسب مع تطلعاته في خدمة الثورة الكوردية، ففي «عام 1974 انتقل والدي إلى أربيل، والعراقيل التي رافقت تطبيق اتفاقية آذار أدت إلى أن يلتحق والدي بالثورة كإداري مع صالح اليوسفي ولم يكن ضمن قوات البيشمركة، بل اشتغل على تأسيس الإدارة الكوردية وصار رئيسا لمحكمة الاستئناف حيث كانت هناك إدارة في الجبل، ونحن العائلة عدنا إلى السليمانية لأن الأوضاع صارت صعبة في أربيل ومن هناك التحقنا بوالدي ومن ثم إلى مدينة (نغدة) الإيرانية وبعد عام انهارت الثورة الكوردية، وفي عام 1975 عدنا مع والدي إلى السليمانية فتم نفي والدي إلى مدينة السماوة حتى عام 1979»، موضحا: «نحن لم نذهب مع والدي إلى السماوة بل بقينا في السليمانية».

لم يؤثر نفي السلطات الأمنية في السليمانية لوالده على النشاط السياسي لبرهم، بل على العكس من ذلك زادته هذه الحادثة إصرارا وإيمانا وثقة بما كان يقوم به، والأكثر من هذا صعد من نشاطه السياسي من غير أن يتنازل عن تفوقه الدراسي، بل كان تفوقه في المدرسة سلاحه في لدفاع عن نشاطه السياسي، يتذكر قائلا: «في عام 1976 نشطت في العمل السياسي السري وكنت أتحرك كثيرا واقرأ، من غير أن أتهاون مع نفسي في دراستي، وهذا ما جعل والدي يقلق علي إذ كان يتابع نشاطي السياسي وتحركاتي عن قرب بواسطة الأقارب الذين يبلغونه بهذه التحركات وتلك النشاطات السياسية، وكان قلقا مما كان يعتبره تحديا للبعثيين، وكانوا (أقاربي) يفعلون ذلك انطلاقا من حرصهم على حياتي فالأجهزة الأمنية البعثية كانت قاسية للغاية ولا تميز بين نشاط وآخر، أو بين شاب وشيخ، لكن والدي كان يعرف أني متفوق في الدراسة على الرغم من نشاطي السياسي وهذا ما كان يبرر لي مواقفي وأنشطتي».

وكأنه أراد، برهم، أن يختبر التصادم الأول بينه وبين الأجهزة الأمنية وقتذاك، وأن يرحل نشاطه السياسي إلى مرحلة المواجهة، يتذكر: «حدث في بداية عام 1977 أنه كان هناك مهرجان طلابي خطابي، فرشحت من قبل مدرسة شورش للمشاركة في هذا المهرجان وقدمت كلمة عن فلسطين وأشجار الزيتون، لهذا سهل القائمون على المهرجان، وخاصة الاتحاد الوطني لطلبة العراق، البعثي، مشاركتي، لكنني عندما وصلت إلى المنصة غيرت اسم فلسطين أينما وردت في الخطابة إلى كوردستان، وبدلا من شجرة الزيتون ذكرت شجرة البلوط، فتلقى الحضور الكلمة بالتصفيق والترحاب، وكنت أنظر إلى مدرس اللغة العربية الذي رشح خطابتي للمشاركة وقد غرق في عرقه خشية من النتائج، وما أزال أتذكر المشهد حتى اليوم، بينما كان مدير النشاط المدرسي في مديرية تربية السليمانية، وهو خال والدتي يشير إلي لمرات عدة بالنزول وترك المنصة والتوقف عن إكمال إلقاء الخطابة، لكنني أكملتها وسط هياج الجمهور، وما إن انتهيت من خطبتي حتى سارع مسؤول الاتحاد الوطني الكوردستاني إلى إخراجي من القاعة، ولولا خشية البعثيين وقتذاك من حدوث مصادمات بينهم وبين الطلبة الأكراد الذين تحمسوا لكلمتي لتحولت إلى واقعة لا تحمد عقباها، مثلما يقال».

لكن هل يمضي مثل هذا الحدث من دون أي نتائج، خاصة أن البعثيين كانوا يتربصون بمثل هذه اللقطات في المشاهد اليومية في المدن الكوردية، فالقصة لم تنته عند خروج برهم من القاعة وغيابه عن أنظار عناصر الطلبة البعثيين ورجال الأمن الذين ذهبوا إلى بيت عمه باعتباره ولي أمره في غياب والده، يقول: «عناصر الأمن البعثية ذهبت إلى بيت عمي بحثا عني لأن والدي لم يكن موجودا في السليمانية وقتذاك، بينما أنا عدت إلى بيتنا، فاقتادوا عمي إلى دائرة الأمن وأخذوا منه تعهدا بعدم تكراري ذلك».

وضعت حادثة المهرجان الخطابي برهم تحت مجهر السلطات الأمنية التي أدرجت اسمه في برامج مراقبتها له، وحسبما يوضح: « بدأت السلطات الأمنية تراقبني كونها أدركت أني على صلة أو عضو في تنظيمات سرية، وخشي أقاربي علي من هذه النشاطات التي كانت تعرف بها والدتي فهي لم تكن تشجعني خوفا علي من بطش الأجهزة الأمنية لكنها كانت تساندني».


معد فياض: الشرق الأوسط

13‏/09‏/2010

ملاحظة

بين الحين والاخر ابحث في المواقع المتعددة واقوم بقراءة ما يلفت انتباهي . واحيانا كثيرة عندما يشدني مواضيع او مقالات او مقابلات معينة اقوم بحفظها لدي لاعود اليها عند الحاجة.

أکذب الکذابين


نزار جاف

GMT 10:38:00 2010 الإثنين 13 سبتمبر


يحکى في قديم الزمان و سالف العصر و الاوان، أن ملکا کان مغرما بغرائب الامور و عجيبها، وکان دوما يبحث عن طرق متباينة لکي ينال مبتغاه، وذات مرة، تفتقت ذهنه عن فکرة جديدة حيث أعلن بأنه سيدفع مبلغ کبير من المال لمن يقول أمامه کذبة استثنائية لايتقبلها العقل لکن في حالة عدم تقبل الملك للکذبة فإن حياة الراوي ستکون الثمن، وطبعا هل الکذابون او الحالمين بنيل الجائزة من کل صوب و حدب خصوصا وان الحياة في ذلك البلد کانت مصداقا لبيت الشعر القائل:(ألا من موت يباع فأشتريه فهذا العيش مما لاخير فيه، وألقى کل واحد منهم أمام الملك مافي جعبته من کذبة، لکن الملك لم يکن يقتنع بأي منها وظل يستمع للمزيد منها بدون جدوى، حتى جاء ذات يوم رجل رث الثياب قادم من المجاهيل وقد أضناه التعب و الجوع و طول السفر وطلب السماح له بإلقاء کذبته في حضرة الملك، ولم يسمحوا له بالدخول إلا بعد أن نشبت بينه و بين حراس باب القصر الملکي مشادة کلامية وصلت الى أسماع الملك الذي أمر بإدخاله و اوضحوا له بأن حياته ستکون الثمن لو لم يقتنع الملك بکذبته، غير أن الرجل بادر الملك باسلوب ماکر بأنه واثق من نفسه لأنها حکاية حقيقة جرت له، وهنا أثار إنتباه و فضول الملك الذي أمره بأن يروي حکايته فقال الرجل وهو يتصنع الالم و المرارة: الحکاية بدأت عندما غادرت ذات يوم مدينتي يوم إنهار و تلاشى حلم حياتي بعد أن تزوجت الفتاة التي أحبها من رجل آخر، نکاية من أهلها بي، فقررت أن أغادر المدينة وأهيم على وجهي أملا في أن أعود وقد تبدلت حالي الى أحسن حال واجعلهم يندمون على ماأقدموا عليه معي، و بقيت أجوب السهول و الصحاري و الوديان و الجبال و الممالك المختلفـة وصادفت من الوحوش و الکواسر الکثير الکثير والحمدلله فتکت بها قبل أن تفتك بي، وذات يوم وصلت الى غابة عرفت من عابري السبيل أن اسمها غابة الموت قالوا أن هناك ثمة أسد شرس فيها لم يتمکن منه أقوى و اشجع الفرسان حيث کان نصيب کل من يقارعه الالتهام، لکنني وانا على تلك الحالة من اليأس و القنوط، صممت على المضي قدما للقاء هذا الاسد المزعوم، وفعلا وجدت نفسي فجأة أمامه و هو يزأر بصورة تصم الاذان و تلقي الرعب في القلوب، وعلى الرغم من إحساسي بالخوف الشديد لکنني تمالکت نفسي و بادرته بالهجوم و تشابکنا معا وفي الوقت الذي أدماني بمخالبه و قطع جانب من کتفي بأنيابه، لکنني تمکنت من غرز خنجري في خاصرته لکن للأسف البالغ کان خنجري صغيرا ولم يٶدي غرضه المطلوب ولاسيما وانه قد ضاع بين وبره الکثيف فبقيت من دون سلاح ولاأعلم ماذا أفعل حيال الوضع الجديد، وظل الرجل يتحسر و هو يشهق بقوة فسأله الملك: حسنا أيها الرجل وماذا جرى بعد ذلك؟ فقال له الرجل: ياجلالة الملك هي ليست حزورة وان المسألة واضحة کالشمس! فتعجب الملك أکثر وقد تملکه الفضول لمعرفة بقية الحکاية عندما أمره بشکل قاطع بقوله: هيا أخبرنا ماذا جرى تحديدا؟ فقال الرجل ببرود: الحقيقة يا جلالة الملك وبعد أن لم يعد في يدي سلاح لأقتل به الاسد فقد سنحت له الفرصة المطلوبة و إلتهمني! وهنا صاح به الملك: ويحك أيها الرجل، کيف إلتهمك وانت حي ترزق أمامي! فأجابه الرجل بهدوء کامل: حي؟ وهل تسميني حيا و تعتبر حياتي حياتا؟

الرجل نال الجائزة طبعا لأن الکذبة کانت من القوة بحيث أقنعت الملك، لکن، هذا کان في قديم الزمان و سالف العصر و الاوان وحتى أذکر انني قد سمعت هذه الحکاية في أيام طفولتي في الستينيات من الالفية الماضية، فکيف حالنا مع هذا العصر، مع مختلف الدول و الممالك، مختلف الاحزاب و الساسة، ملوکا و رٶساءا، طبعا اليوم لايحتاج اي زعيم او ملك او رئيس ليجهد نفسه بإحضار أناس لکي يلقون أمامه کذبات کي يقوم بإنتقاء أکذبها، ذلك أن الکذب في هذا الزمن قد صار حرفة حساسة من إختصاص نخب حاکمة في بلدان شرقنا المتخم بسرطانات الحکم الابدية، الکذب المنمق و المزرکش و المغطى بکل أنواع الزخارف و المحشي بمختلف أصناف الطلاسم و الاحاجي، هو ذلك الکذب الذي يصدر من الاوساط الحاکمة لکن، لکل مقام منها مقال، فکذب المسٶول الصغير تکون کذبة عادية قد لاتنطلي على الناس، والمسٶول الاکبر منه تکون کذبته أقوى من ناحية الحبکة و قوة الاقناع، أما لو وصل الامر الى الوزير، فإن کذبته تکون ذات أبعاد ضبابية کثيفة جدا بحيث يصعب من خلالها الرٶيا، لکن، لو وصلنا الى الحاکم بأمر الله، أيا کان، فإن الکذبة هنا ستختلف شکلا و مضمونا، ستصبح کذبة من القوة بحيث أن من صاغها و من نسبت له، يصدقانها و يٶمنان بها کحقيقة لاجدال فيها، الکذب هنا سيصبح أمرا مختلفا، أنه السبيل و الطريقة المثلى لتسيير امور الرعية، وقطعا فإن علماء الزور من أولئك الذين توجد تحت عماماتهم ألف شيطان و شيطان، يقومون بتبرير کذبات اولياء نعمتهم فيسمونها دجلا و بهتانا کذبات بيضاء الغاية منها اصلاح أمور الرعية و إرشادهم لما فيه خيرهم و صلاحهم.

قالت العرب: أجمل الشعر أکذبه، والكذب هنا المبالغة في الوصف و الاطراء کما قال المتنبي ذات يوم:
أي مکان أرتق أي عظيم أتق
وکل ماخلق الله ومالم يخلق
محتقر في همتي کشعرة في مفرقي

المتنبي يعلم قبل غيره أنه يکذب في کلامه لأن فيه مبالغة لايصدقها العقل أبدا سيما عندما يأخذه الزهو و الاعتداد بنفسه الى حد الاطلاق وهو أمر يعلم أي متلق لهذا الشعر بأنه أبعد مايکون عن الحقيقة و الواقع، لکن، في بلداننا، أعظم الساسة و ادهاهم أکذبهم، وانجح السياسات و أمضاها تلك التي تستند على بلاطات من الکذب، وطبعا ليس الکذب حکر او حصري ببلدننا و حکامنا وانما هو مباح لکل عابر سبيل في أرض الله الواسعة، لکن، المشکلة أن الکذب في بلدان الکفر و الالحاد و الفسق و الفجور، له حدود و معالم معينة وليس بالامکان أبدا جعله على وجه الاطلاق، أما عندنا، فبإمکانك أن تقول أنه وکما يقول العراقيون:(جيب ليل و خذ عتابە)، أي له بداية من دون نهاية، أي کذب بلا حدود، کذب لايقف أمامه شئ، وهنا أود أن أذکر کلاما لزميل هو الان في دار الحق بهذا الخصوص عندما أکد لي بأن الکذب لو تجلى ککائن حي في الشرق لأصابه الذهول و خر على رکبتيه مذعنا أمام کذب هٶلاء الحکام الذين صاروا بحق هم الاولى بحرفة الکذب و صناعتها واعلن برائته من الکذب.