|
Ez mame di hikmeta xwedê da, Kurmanc di dewleta dinê da, A ya bi çi wechî mane mehrûm, Bilcumle ji bo çi bone mehkûm
30/09/2010
|
27/09/2010
د.برهم: بعثيون طلبوا مني الانضمام إليهم فأجبتهم بأنني كردي ولا أستطيع الانتماء لحزب عربي
رئيس حكومة الإقليم: أطلق سراحي من المعتقل قبل الامتحانات بيومين ومع ذلك حزت المرتبة الثالثة على العراق
عن الشرق الأوسط
في هذه الحلقة من مذكرات برهم صالح، يواصل الحديث عن حادثة اعتقاله، قائلا «أخذوني إلى معسكر السليمانية الذي كانت تجري فيه الاعتقالات والإعدامات، وهو مكان مرعب، تحول الآن إلى متنزه كبير يحمل اسم (بارك آزادي) - متنزه الحرية. هناك ضربوني لكن ليس بقسوة، وعند ظهيرة اليوم التالي عرضوني على النقيب عبد، مسؤول في الاستخبارات العسكرية في السليمانية، وللإنصاف أقول إنه تعامل معي بلطف.. قال لي (اجلس ولا تقل أي شيء من دون أن أسالك)، ثم أردف قائلا (هناك صديق لي هو فلان، من عائلة الساعاتي في السليمانية، وهذا الرجل أحترمه وأقدره لأنه ساعدني كثيرا، وقد طلب مني مساعدتك، وأنا قرأت ملفك، وأنت ابن عائلة معروفة ومتفوق دراسيا، لكن لدينا معلومات أغلبها دقيق وسنحقق معك فقط). وأوصل لي رسالة مفادها أنه سيكون طيبا معي، وقد توسط صديقه بأن يجلبوا لي الكتب المدرسية لأنه لم يتبق سوى أيام قليلة على الامتحانات التي ستقرر مستقبلي، وبالفعل جلبوا لي الكتب في اليوم الأخير من التحقيق حيث بقيت ثلاثة أيام عندهم، وأفرجوا عني، حيث لم يكن قد بقي على موعد الامتحانات سوى يومين، أو يوم واحد، وصار عندي تحد كبير لأن أبرهن تفوقي أمام الجميع».
ويضيف صالح «بالفعل خضت الامتحانات النهائية وكانت النتيجة أن نجحت بتفوق وجاء معدلي (96.06%)، حيث كنت الأول على محافظات كردستان (الحكم الذاتي وقتذاك)، والثالث على عموم العراق، وكان عدي صدام حسين هو الأول على العراق حسبما سمعت وقتذاك».
يقول أستاذه في المدرسة، الأستاذ فهمي «أتذكر جيدا أن الحاكم أحمد والد برهم اتصل بي هاتفيا وأبلغني بأن برهم قد أطلق سراحه، وأنهم يريدون مني أن أدرسه مادة الرياضيات، وكما نعلم فإن مادة الرياضيات صعبة جدا، ومن الصعب أن ينجح فيها طالب كان في السجن ورأى كل ذلك التعذيب، ذهبت بسيارتي إلى منزل عائلته، وبدأت أدرسه مادة الرياضيات، وعندما كنت أشرح الدرس لبرهم وأعطيه الأمثلة كان يقول لي (يكفي هذا يا أستاذ فهمي وانتقل إلى موضوع آخر). كنت أعتقد أنه كان يريد أن ينجح فقط ولم يكن في بالي أن يحصل على تلك الدرجات العالية، كانت درجاته (96.6%) أي أنه كان الأول على منطقة كردستان والثالث على العراق، وكانت سعادتي الأكبر أنه حصل على مائة درجة من مائة في مادة الرياضيات».
ويستطرد قائلا «رأيت يوما والد الدكتور برهم، هنأته وقلت له: هل سترسل برهم إلى كلية الطب أم كلية الهندسة؟ فقال، يا أستاذ فهمي أنا نفسي من (الـعائدين) - الذين كانوا مع الثورة الكردية وعادوا إلى مدنهم بعفو - وإذا مارس هو أيضا السياسة فهذا معناه أننا سنلقى حتفنا ونفقده، فليذهب إلى بريطانيا حيث سيحمي علمه ويمارس السياسة أيضا».
يقول شوكت حمدي رشيد، الذي كان مديرا لإعدادية شورش عام 1977 وكان يعرف الدكتور برهم عن قرب حيث كان أحد تلامذته «لم أكن أعرف برهم من قبل، لكني سمعت بذكائه بحيث كان يؤمل أن يكون الأول على مستوى العراق»، مشيرا إلى أن «برهم صالح كان ظاهرة بين الطلاب كالنجم الساطع، إذ لم يكن وفيا ومخلصا للمدرسين فحسب، بل كان وفيا للطلاب أيضا».
ويستطرد هذا المربي الفاضل قائلا «أتذكر جيدا أن برهم اختفى بعد امتحانات نصف العام، وتبين بعد ذلك أنه اعتقل، اتصل بي والده مباشرة وأبلغني أن السلطات الأمنية اعتقلت برهم، ولكوني مديرا للمدرسة حيث كان أبناء مسؤولي حزب البعث طلبة عندي، وكانت لي معرفة بآبائهم، لذا قلت إنني سأبذل ما في وسعي على الرغم من أنه كان هناك الكثير من المخلصين الذين قاموا بمحاولات كثيرة لإطلاق سراحه، ذهبت إلى مدير أمن السليمانية الذي كنت اعرفه فقد كان ابنه طالبا في الصف الثالث في مدرستي، جلست معه وحدثته عن الأمر، فقال (أعرف كل شيء). فقلت (وماذا تعرف؟)، قال (الولد الذي تتحدث عنه هو من تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني، ومن الأفضل ألا تتدخل في هذا الموضوع) فقلت له إن (ذلك الولد الذي اسمه برهم طالب عندي ونتوقع أن ينجح بالمرتبة الأولى على مستوى العراق، فكيف أتركه هكذا؟)، فقال (حسنا فلتنته التحقيقات عندها أرى ما يمكنني أن أفعله)».
ويضيف رشيد الذي كان مديرا للمدرسة التي كان يتعلم بها برهم، قائلا «عندما خرجت لم يكن عندي أمل في إطلاق سراحه، وبعد فترة ذهبت إليه وقلت له (إن برهم بحق طالب ذكي ومن الظلم أن يبقى في السجن، ويمكنك أن تسأل المدرسين العرب عن تصرفه داخل المدرسة). بعد فترة أبلغني مدير الأمن بموافقته على إرسالنا كتب برهم إليه في السجن، أرسلوا ليدرس هناك، وهذا ما أعاد إلي الأمل، وقد أرسلت له الكتب فورا».
ويستطرد بذكرياته عن تلميذه برهم، بقوله «نتيجة لجهودنا وجهود المخلصين الآخرين أطلقوا سراحه قبل الامتحانات، وقد استطاع برهم أن يدرس في السجن في حين كانوا يحققون معه ويعذبونه كثيرا، لكنه استمر في دروسه وفي النهاية أخذ المرتبة الأولى على مستوى كردستان والثالثة على مستوى العراق، ويبدو أن إدارة الأمن كانت قد قررت اعتقاله مجددا بعد الامتحانات، لكن كانت حكمة أهله في أنهم أرسلوه إلى خارج البلاد».
وينبه رشيد إلى أن «برهم كان يعمل آنذاك كقائد شاب ومتمكن، وهناك فرق بينه وبين القادة الآخرين وهو أنه أتم شيئين في حياته بنجاح، الأول هو دراسته والثاني هو عمله السياسي، وهذا ليس بالأمر الهين، وقلة من القادة يستطيعون أن يوفقوا بين القضيتين»، مستذكرا «حادثة لن أنساها أبدا وهو أنه بعد عودة الدكتور برهم إلى إقليم كردستان بعد سنة 2001، وتوليه منصب رئاسة حكومة الإقليم في السليمانية،اتصل بي سكرتيره وقال لي أنه يريد رؤيتي مع المدرسين الذين كانوا أساتذته وقتذاك، وبدوري أبلغت المدرسين وذهبنا إلى مجلس الوزراء، وعلى الرغم من أن ضيوفه كانوا كثيرين، فإنه قدم موعدنا وبقي معنا أكثر من ساعة. كان يدهشني أدبه وإخلاصه بحيث أنه كان يجلس في النهاية وتبين لنا بتصرفه هذا أن كرسي السلطة لم يغير برهم وانه نفس الطالب السابق».
يقول برهم صالح «هذه النتيجة، نجاحي المتفوق، حولتني إلى قصة المدينة، حيث اجتمع الناس في بيتنا مهنئين وجاءوا من مناطق بعيدة من دون أن نعرفهم، إضافة إلى الأقارب والأهل، إذ صاروا يفتخرون بابن السليمانية الذي اعتقل وخرج من المعتقل إلى الامتحانات وتفوق».
يستطرد قائلا «في اليوم التالي أرسل بطلبي مسؤول تنظيمات السليمانية لحزب البعث، وذهبت لمقابلته، هنأني على تفوقي وقال لي (الآن يجب أن تنتمي إلى حزب البعث وترى مستقبلك، وإلا فمن الصعوبة أن أحميك)، قلت له أنا لا استطيع أن أكون بعثيا، إذ إن هذه الطريقة فيها خيانة لمبادئي، فأنا إذا صرت بعثيا تحت التهديد سأكون قد انتميت إلى الحزب تحت سلطة الخوف وليس إيمانا بالحزب، ثم إن الحزب اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنا كردي، فكيف أدخل إلى حزب عربي؟.. صمت قليلا واحتار بما يجيبني، فقال (اذهب وفكر وأنا في انتظار ردك)».
لم يخطر في ذهن برهم التفكير في الموضوع ولو لدقائق، لكنه بالتأكيد كان قد فكر في الخطوة، أو الخطوات القادمة التي تهم حياته ومستقبله. هنا، أيضا، يجد نفسه في مفترق طرق جديد، لكن هذا المفترق سيكون الأهم في تاريخه على الإطلاق، يقول «عندما عدت إلى البيت واجتمعت مع أهلي وأقاربي ورفاقي وبعض الأصدقاء، وأخبرتهم بما جرى مع المسؤول البعثي، هناك من اقترح علي أن التحق بالثورة الكردية في الجبل وأخلص من الملاحقات الأمنية، لكن أحدهم قال (أنت متفوق، وأقترح أن أكمل دراستي خارج العراق، إذ كانت الحكومة وفي عهد رئاسة أحمد حسن البكر تبعث الطلبة العشرة الأوائل من خريجي المدارس الإعدادية كل عام للدراسة خارج العراق، في أوروبا على الأغلب وعلى نفقتها، هذه الفكرة هي التي لقيت التأييد الأوسع من قبل عائلتي ورفاقي في الحزب على حد سواء، وهكذا باشرنا بالعمل على تنفيذها والشروع بها، فذهبنا إلى بغداد واستكملنا إجراءات البعثة الدراسية وحصلت على جواز سفر، لكن تحريات عمي توصلت إلى أن اسمي كان ضمن لوائح الممنوعين من السفر في المطار، فعملوا جهدهم بالتوسط وتقديم الهدايا لرفع المنع، ولم يرشحوني إلى البعثات بالرغم من تفوقي لأنني لم أكن بعثيا، لكننا كنا نريد رفع منع السفر أولا ولا يهمنا موضوع البعثة، وهكذا غادرت بغداد إلى لندن في الرابع من أغسطس (آب) 1979 للدراسة على نفقتي وليس على حساب الدولة».
لم يتحدث برهم صالح يوما للإعلام عن حياته السياسية أو عمله الحزبي داخل تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني، مع أن تاريخه الحزبي حافل بالعمل السياسي السري، حتى بات البعض يتصور أن هذا السياسي جاء فجأة من خارج التنظيمات ليتبوأ المناصب.
لكن رفاق دربه الحزبي هم الذين قدموا إفاداتهم وشهاداتهم عن التاريخ الحزبي لصالح، وخسرو عبه رش، أأحد مناضلي الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث التحق بالتنظيمات السرية للحزب منذ شهور تأسيسه الأولى داخل السليمانية عام 1975، وكان قد واكب عن قرب العمل الحزبي لبرهم، يقول «في يوم من الأيام كان عندي اجتماع مع الرفيق حمة حسين (قتل لاحقا) فقال لي إن لدي صديقا ذكيا ومتمكنا يريد أن ينضم إلينا، وكان الشخص الذي يتحدث عنه هو برهم صالح فقلت له (من الأفضل أن يبقى معك في التنظيم) فقال (إن قدراته الفكرية والعلمية أكبر مني، بالإضافة إلى أنه صديقي وأخشى أن تؤثر صداقتنا سلبيا على عملنا التنظيمي)، عند ذاك وافقت على ضم برهم معنا».
ويستطرد خسرو قائلا «كانت أولى جلساتي مع برهم في أحد المقاهي التي كانت تقع أمام السينما رشيد في مدينة السليمانية، وعندما وصل رأيت شابا وسيما عرفني بنفسه، لا أعرف ما اعتراني ساعتها لكنني في عيون هذا الشاب قرأت أن الثورة تخطو نحو النصر حيث كان من النادر أن يفكر شاب غني وثري في أن يصبح وقودا للثورة والعمل التنظيمي، وكنت سعيدا جدا بانضمامه إلينا ومنحناه لقبا سريا هو (باور)» وفيما يتذكره خسرو عن الإمكانيات الفكرية التي كان يتمتع بها برهم وقتذاك، يقول «كنت أحمل معي كتابا لـ(مام جلال) وعنوانه (بره) وكان أول موضوع نناقشه. فطلب برهم مني أن أعطيه الكتاب، لكننا كنا لا نملك كثيرا من نسخه آنذاك، فقلت له (لا أستطيع أن أعطيك الكتاب لأنه النسخة الوحيدة المتوافرة لدي)، فقال (أعطني إياه لهذه الليلة فقط) وفعلت، وفي الصباح اتصل بي هاتفيا وقال (أريد أن أراك)، وعندما وصل رأيت أنه قد أعاد الكتاب وقد أعاد كتابته بنسختين. كان ذلك شيئا غريبا بالنسبة لي وهو أن ينشغل طالب آنذاك بكتابة ذلك الكتاب وخلال ليلة واحدة يقوم بكتابته بنسختين وبخط يده».
ودعما لما ذكره برهم نفسه حول استغلاله لسيارة والده الحاكم لأغراض التنظيم الحزبي، يذكر خسرو «نظرا لأن وضع برهم من الناحية الاقتصادية كان جيدا جدا حتى إن عائلته كانت تمتلك سيارة في وقت كانت السيارات قليلة في المدينة، لذلك كنا نقوم بأغلب فعالياتنا الحزبية بسيارتهم، إذ كان في بعض الليالي يخرج بسيارتهم دون علم أهله لننقل بها مقاتلي البيشمركة، وأتذكر في إحدى المرات دخل الدكتور بختيار وآسو دلاك وشوان (قتلوا جميعهم فيما بعد) إلى المدينة للقيام بعملية، لكن مع الأسف استشهد الدكتور بختيار خلال القيام بتلك العملية ونجا الآخرون، وكان لبرهم دور كبيرا في إخفاء هذين الرفيقين آسو وشوان، حيث سلمتهما إلى برهم قبل مغادرتهما المدينة بليلة واحدة، وقد أخفاهما في منزل عائلته».
ويستطرد خسرو ساردا التاريخ النضالي لبرهم، يقول «بعد فترة أصبحت طالبا في الموصل، واضطررت إلى أن أعرف برهم بالرفيق حمة رؤوف (قتل لاحقا) ولكن مع الأسف عرفه بدوره على مدرس كان اسمه كمال وكان في عمر والده وكان هذا غير مناسب نظرا للتفاوت الكبير في العمر بينهما وكنا نخشى أن يتم كشفهما من قبل السلطات، لذلك طلبت من لحمة رؤوف أن ينقل برهم فكان أن أرسلوه عند جمال ديمقراط ولكن تم اعتقال برهم بعد شهرين».
ويوضح «في الحقيقة كنت خائفا جدا على برهم ولم أتجرأ على أن أعود إلى السليمانية إلى أن تم إطلاق سراحه. وأقولها باعتزاز إن برهم صالح استطاع أن يبدي التحمل والإصرار، ويتخطى تلك التجربة بنجاح، لكنه اعتقل بعد فترة من جديد، ولم يعترف بشيء هذه المرة أيضا وتم إطلاق سراحه».
هناك من يلوم برهم صالح لعدم صعوده إلى الجبال والقتال مع قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، مع أنه، وحسب شهادات رفاقه ومسؤوليه في الحزب، كان يقوم بمهمات أكثر أهمية وخطورة من تلك التي كان سيؤديها هو في الجبل، بل إن مسؤوليه في التنظيم كانوا قد رفضوا أن يذهب إلى الجبال، وفضلوا أن يكمل دراسته خارج العراق اعتمادا على مؤهلاته العلمية العالية وتفوقه الدراسي الكبير، حسبما يؤكد خسرو «بعد ذلك قررنا أن هناك طريقين أمام برهم، إما أن يخرج إلى الجبال، أو أن يغادر إلى خارج العراق لنبعده عن أيدي الجهات الأمنية أولا، ونستفيد من قدراته العلمية ثانيا، وتبين لنا أنه من السابق له أن يخرج إلى الجبال حيث كنا نقول دائما إن الدراسة هي فوق كل شيء، وإن الذين لديهم القدرة على الدراسة يجب أن يكملوا دراستهم. كان من رأي أغلب الرفاق أن يغادر برهم إلى خارج البلاد وقد تم ذلك وخرج من العراق».
لكن علينا ألا نعتقد أن حياة الفتى أو الشاب برهم صالح كانت عبارة عن مشاغل سياسية وحسب، حياة خالية من اللون والصوت وقوة التعبير، يتحدث عن تلك الفترة قائلا «كان جيلنا مهتما بالثورة الكردية وبالثقافة في آن واحد، لإدراكنا أن كل مفردة من هذه المفردات تكمل بعضها، وأنا كنت مهتما بالثورة ونشاطي السياسي وبالقراءة والدراسة في الوقت ذاته، وكنت ولا أزال أهتم، وأنا ملم، بالثقافة الكردية وإلى حد كبير بالثقافة العربية، ولدي اهتمام خاص بالمسرح، ولا أزال أتابع الحركة المسرحية في السليمانية». ويكشف هنا عن انتمائه لحركة مسرحية أراد أن يختبر خلالها مواهبه الإبداعية «وقد انتميت إلى فرقة مسرحية في السليمانية، لكنني لم أكن ممثلا جيدا فتركتها، كما كانت تعقد ندوات ثقافية كثيرة في مدينتنا وكانت وقتذاك جزءا من الحراك السياسي، أي أنها لم تكن ندوات ثقافية بحتة، وكأي شاب وقتذاك كنا نستمع للأغاني الجديدة خاصة الكردية، فرقة السليمانية وحسين كرنياني، وأيضا كنت معجبا بمظهري خالقي (فنان كردي إيراني)، وبسبب السنة التي قضيتها في إيران وتقارب الثقافتين الكردية والإيرانية أعجبت بالغناء الإيراني خاصة داريوش وهايدا ومهستي وكوكوش، كما كنا نتابع ديمس روسز وتوم جونز، وإلهام المدفعي الذي يمثل مزاوجة جميلة بين الفن العراقي الأصيل والجاز الغربي».
برهم صالح أخذ على عاتقه بعد سنوات طويلة، وعندما تسلم مسؤولياته كنائب لرئيس الحكومة العراقية، إعادة إعمار شارع المتنبي ليعيد لبغداد جزءا مهم من ألقها الثقافي والحياتي المميز، وهو يتابع الإنجازات الثقافية من شعر وفنون تشكيلية وموسيقى، ويحتفظ اليوم في بيته بأعمال تشكيلية عراقية مختلفة الأساليب والرؤى لفنانين عراقيين، هذه المجموعة تعبر عن رؤيا واضحة لهذا المنجز الفني العراقي المهم.
لكنه، وفي سنوات شبابه الأولى، كان يتابع الحراك الثقافي في مدينة السليمانية التي عرفت باعتبارها واحدة من أهم المدن الثقافية في العراق، كما تميز أهلها بمتابعاتهم وانشغالاتهم الثقافية التي تتوزع على السينما والمسرح والموسيقى والغناء والشعر والفنون التشكيلية، يقول مستذكرا «كانت تعقد أمسيات شعرية للشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس قبل وبعد التحاقه بالثورة الكردية، وكذلك للشاعر المعروف لطيف هلمت، وكذلك للشاعر الكردي الإيراني هيمن الذي جاء إلى السليمانية واحتشدنا لسماع قصائده إذ كنا سمعنا عنه وقرأنا له قبل أن نراه، وكان المتلقي يفسر كل كلمة من القصائد حسبما يريد باعتبارها رموزا سياسية وليست قصائد. وكنت أذهب كثيرا إلى السينما لا سيما أن عمي كان يملك دار عرض سينمائية، وكنت أدخل مع أصدقائي مجانا، في وقت كانت توجد فيه ثلاث دور عرض سينمائية في عموم المدينة، وغالبا ما كنت أذهب لمشاهدة الأفلام التي فيها نوع من القصص السياسة أو سيرة حياة مناضل ثوري عالمي، فقد كانت هذه الأفلام نادرة بسبب الرقابة الأمنية المشددة عليها».
كان برهم يعيش مرحلته العمرية بكل مساحاتها واشتراطاتها الحياتية، يقول «كنا نتابع موديلات الملابس ونرتدي آخر ما يصل من الأزياء الأوروبية، مثل سراويل الجارلس والأربطة العريضة الملونة، وكنت أطلق شعري طويلا، يوم كان لي شعر بالطبع». ويستدرك قائلا «أنا عشت مراحل حياتي كاملة وغير ناقصة سواء طفولتي أو فتوتي وشبابي، وكنت أمارس نشاطي السياسي والثقافي وأتفوق دراسيا، حيث كنت أنجح وأكون الأول على المدرسة كل عام، إذ لم أكن أتغيب عن المدرسة، وكنت مواظبا على أداء واجباتي الدراسية والاجتماعية».
التفوق الدراسي كان سببا لإنقاذه من محن آنية كثيرة، فمثلا «خلال التحقيق معي في المعتقل كانت حجتي أنني متفوق دراسيا ومواظب على الحضور في المدرسة، فكيف تتهمونني بكل هذا الحراك السياسي؟ ولو كنت مثلما تقولون لانشغلت في العمل السياسي وتركت دراستي، وكانت هذه أهم وسيلة للدفاع عن نفسي، والحق يقال إن بعض معلوماتهم كانت دقيقة وصحيحة من خلال مراقبتهم وبعض الاعترافات التي حصلوا عليها وكذلك من خلال عملائهم المتعاونين معهم، وكانت حججي تخلق لهم نوعا من الإرباك والشك في الوشايات أو المعلومات التي وصلتهم، إذ كيف يمكن أن يكون تلميذ في السنة النهائية من الدراسة الإعدادية متفوقا ودرجاته عالية ومواظبا على دراسته وحضور المدرسة وفي الوقت ذاته هو نشيط سياسيا».
لقد حول برهم كل ما اختزنته ذاكرته من مشاهد ومعايشة حقيقية وعن قرب إلى دروس يستنير بها حاليا، يقول «كانت الأجهزة الأمنية مسيطرة من حيث السطوة والإرهاب ومن خلال أجهزتهم المخابراتية والأمنية والحزبية، لكن بسبب افتقادهم للدعم الشعبي وعدم تعاون الناس معهم في السليمانية لم يستطيعوا السيطرة على التحركات السياسية، وحتى لم يتمكنوا من ضبط الشارع أمنيا، وهذا درس بليغ لكل الأجهزة الأمنية والحكومات بأنها إذا لم تكسب الناس وتشعرهم بالانتماء إلى الشعب فإنها لن تتمكن من إنجاز أي شيء، فالسطوة والتعذيب وإشاعة العنف والخوف لا تحقق أي شيء مهما بلغت قوة هذه الأجهزة وبطشها، بدليل أن الحكومات العراقية متعاقبة وعبر عشرات السنين وبجيوشها وسطوة أجهزتها الأمنية وسجونها وإعدامها للآلاف من الأكراد لم تستطع القضاء على الثورة الكردية أو إيقاف تيار نهرها الجارف. وهنا أتذكر حادثة حصلت عام 1976، إذ صحونا ذات يوم مبكرين، وبالضبط الساعة الثامنة صباحا، على أصوات رصاص يتردد صداه في مركز مدينة السليمانية إثر تعرض موكب المحافظ إلى هجوم مسلح من قبل رفاقنا في شارع مولوي، وهو مركز المدينة النابض بالحركة، لم أكن أعرف وقتذاك المهاجمين، لكننا عرفنا فيما بعد أن المنفذين للعملية ينتمون إلى التنظيمات السرية للاتحاد الوطني الكردستاني. هذه الحادثة وغيرها من عمليات تؤكد أن قوة القمع السلطوي لا تستطيع إيقاف عجلة أي ثورة ضد الاستبداد».
حادثة أخرى يتذكرها بدقة «عندما كنا، مثلا، نوزع منشورات حزبية سرية، أو ننقل بعض قطع السلاح سرا، ونجد أن الأجهزة الأمنية تلاحقنا بسياراتها السريعة وعناصرها المدججين بالسلاح، كنا ندخل أي بيت قريب ونقول لهم إننا نتعرض للمداهمة أو الملاحقة من الأمن، فكانوا يؤووننا ويدبرون الطرق لإخفائنا أو تهريبنا لإنقاذنا، وكنا نطمئن أن كل بيت يؤوينا ويفتح أبوابه أمامنا بلا تأخير أو قلق، وكانت كل بيوت السليمانية هي مقرات احتياطية للجوئنا واختفائنا من غير أن نتفق معهم أو نشعرهم مسبقا بذلك لأنهم يعرفون أننا نناضل من أجلهم ومن أجل حريتهم وحياتهم وقضيتهم».
يعزو صالح أحد أهم أسباب فشل سلطات النظام السابق في قمع الثورة الكردية والقضاء عليها إلى الالتفاف الشعبي الكردي على هذه الثورة والإيمان بها ودعمها، يقول «هذه تجربتنا مع حزب البعث في العراق، فالحزب الحاكم آنذاك كان في حالة حرب مع الثورة الكردية التي شكلت واحدة من أشد المراحل خطورة عليهم، وهي حرب بين شعب مؤمن بعدالة قضيته ونبل تضحياته، وسلاح هذه الثورة هو الإيمان بقوة الإرادة وليس بالأسلحة البسيطة التي كان يتوفر عليها مقاتلو ثورتنا، بينما كان الجانب المقابل هو الحكومة، حزب البعث الذي كانت لديه القوات المسلحة بجميع أسلحتها المتطورة من طائرات مقاتلة ودروع وأعداد كبيرة من الجنود والأسلحة الثقيلة، إضافة إلى مختلف الأجهزة الأمنية والمعتقلات المزودة بأشد وسائل التعذيب والتنكيل قسوة والجيش والمعسكرات التي كانت مزروعة وسط مدننا والتي كان يُعدم فيها يوميا العشرات من الثوار الأكراد، بل كانت دائرة الأمن وسط مدينة السليمانية (بناية الأمن الحمراء) التي شهدت حلقات يومية من تعذيب الرجال والنساء، بل وحتى الأطفال وإعدامهم، إذ عرفت هذه الدائرة باعتبارها الأكثر قسوة ورعبا في كردستان، وربما في جميع المحافظات العراقية، باستثناء مقار ومعتقلات مديرية الأمن العامة ورئاسة المخابرات في بغداد، ومع ذلك لم تتمكن سلطات البعث من قمع الثورة الكردية لأن هذه الثورة كانت مدعومة من قبل الناس، من قبل الجماهير الكردية التي اعتبرت أن النظام الحاكم ضدها ويريد القضاء عليها وعلى طموحاتها وأحلامها وإرادتها، وذلك من خلال القضاء على ثورتها لهذا حاربت هذه الجماهير أساليب وقمع النظام بشتى الطرق المتاحة، فالشعب كان معنا ولنا».
دائرة الأمن الحمراء (امنه سوره كا) كما تسمى أو مشهورة باللغة الكردية، تحولت اليوم إلى متحف يعرض أجهزة ووسائل التعذيب والقتل، ولم تتم إعادة إعمار هذه البناية، إذ بقيت على حالها لتبقى شاهدا حيا ووثيقة تتحدث عن المآسي التي جرت بين جدرانها، وتدين وحشية وتسلط النظام التعسفي الذي كان حاكما في العراق.
26/09/2010
في مفترق الطرق ( 2 ). مذكرات الدكتور برهم صالح.
رئيس حكومة إقليم كردستان في مذكراته لـ «الشرق الأوسط» : بيتنا كان قريبا جدا من دائرة الأمن ومع ذلك كنا نسعف المقاتلين الجرحى
يأتي مفترق جديد في حياة الفتى برهم يفرض عليه ترك مدينته الأثيرة إلى نفسه، السليمانية. لكن الدروب ستأخذه هذه المرة بعيدا عن بيئته الحاضنة، وعن جغرافيته المؤثثة بالجبال والوديان وغابات الجوز والبلوط، إلى بيئة مختلفة تماما، من حيث تضاريسها الجغرافية واللغة والعادات والتقاليد. سيدخل مرحلة لم يكن قد دشنها من قبل، مرحلة النفي الطوعي.. يقول «اقترح أقاربي على والدي أن يأخذني قربه إلى السماوة لإبعادي عن نشاطي أولا وعن أنظار الأجهزة الأمنية ثانيا، وبالفعل التحقت بوالدي في العطلة الصيفية لعام 1977، وكان هناك جو سياسي من نوع آخر، حيث السياسيون الأكراد المنفيون، وضمنهم السياسي الكبير حمزة عبد الله، وهو من القيادات الشيوعية المهمة، وكان مقربا من الزعيم الملا مصطفى بارزاني، وقد اتهمه صدام حسين بأنه حلقة الوصل بين بارزاني والاتحاد السوفياتي، وتم تعيينه مديرا لغابات السماوة، ولأنه لم تكن هناك أي غابات في السماوة فقد كان يذهب إلى العمل الساعة الثامنة صباحا ويعود بعد ساعتين إلى البيت، وكنت أمضي جل وقتي مستمعا إليه وإلى الأفكار الاشتراكية وتجاربه وأحاديث سياسية مهمة كان لها الأثر البالغ في تربيتي السياسية».
تحول النفي الطوعي الذي جاء ببرهم من السليمانية إلى السماوة إلى فرصة غنية للاطلاع على تجارب السياسيين الأكراد المنفيين مع والده إلى تخوم الصحراء التي تربط العراق بالربع الخالي من شبه الجزيرة العربية، وما كان يفتقده هذا الناشط السياسي الفتي من دروس نظرية مهمة وجده في بيت المنفيين بجنوب غربي العراق.. يقول «كان البيت الذي يقيم فيه والدي هو محل إقامة غالبية السياسيين الأكراد المنفيين، ويضم شخصيات سياسية مهمة تعلمت منهم الكثير، وكانت أجواء البيت غنية بالنقاشات السياسية والفكرية، وقد أحببت هذه الأجواء، إذ كنت أصغرهم سنا. وفي هذا البيت تعلمت الطبخ».
كانت الروح السياسية التي تسكن برهم تكاد تتفجر مثل بركان لا يقوى أحد على تكميمه، ويصادف أن ينفجر هذا البركان في أول فرصة تسنح له في مدينة السماوة.. يتذكر قائلا «هناك تعرفت على شاب في عمري وكان ابن أحد القضاة من أهالي المدينة وزميل والدي، وذات يوم دخلت مع هذا الشاب في نقاش سياسي حيث تحمست لقضيتي الكردية وتحدثت له عن حقوق الأكراد التي صادرها حزب البعث، وأهمية أن تُمنح لنا حقوقنا، وتهجمت على حزب البعث، إذ كنت شابا ثوريا وكان من الطبيعي أن أتصرف بهذه الطريقة، في اليوم التالي أخبر والد هذا الشاب والدي وقال له إن (ابني بعثي وعضو في الاتحاد الوطني لطلبة العراق، وقد أخبرني بأنه سمع مثل هذا الكلام الخطير من ابنك برهم، وأنا حذرته من أن يذكر ذلك أمام أي أحد، فإذا أنا ضمنت ابني بألا يشي بابنك فكيف سنضمن أن برهم لا يتحدث بنفس المواضيع مع شباب آخرين وهذا خطر عليه وعليك؟!). حدث هذا في الوقت الذي كنت أعمل فيه مع القيادات المنفية على إنشاء تنظيم للاتحاد الوطني الكردستاني للأكراد المنفيين في الجنوب، فما كان من والدي إلا أن قرر إعادتي إلى السليمانية، وقال لي (نحن هنا مرصودون من قبل الأجهزة الأمنية ولا نستطيع فعل أي شيء، ووجودك هنا خطر على حياتك وأنت تطلق هذه الأحاديث، فعد غدا إلى السليمانية وافعل ما تشاء هناك). وبالفعل تركت السماوة بعد شهر واحد من وصولي إليها وأنا أحتفظ لها بذكريات طيبة سواء عن أهلها أو عن المدينة وبحيرة ساوة وغيرهما».
شكل قرار والده نقطة سعادة في حياة برهم الذي سيعود إلى أهله ومدينته وناسه وعمله السياسي.. يقول «عدت إلى السليمانية وعاودت نشاطي السياسي، ومن مهد لي الانضمام إلى العمل التنظيمي السري هو محمد حسين (شقيق سكرتير صالح اليوم) وقد استشهد عام 2003 على أيدي أحد الإرهابيين، حيث كان ضابطا في الشرطة. وتدرجت في العمل السياسي من عضو خلية إلى الخلية الرئيسية في مدينة السليمانية والتي كانت تسمى (لجنة هملت) وهي الخلية المركزية لتنظيمات الاتحاد الوطني، ومن المفارقات أن بيتنا، بيت القاضي، كان قريبا جدا من دائرة الأمن ويقع في منطقة لا يشك بها أمنيا وغير مؤشرة باللون الأحمر في سجلات الدوائر الأمنية وقتذاك، ومع ذلك كان بيتنا يستقبل مقاتلي البيشمركة الجرحى القادمين من (قره داغ) و(جوارتة) حيث يتم إسعافهم في بيتنا، بل الأكثر من هذا أنني كنت أقود سيارة والدي، سيارة الحاكم، من دون علمه، وأنقل فيها البيشمركة والمنشورات الحزبية وبعض رفاقي الذين لا يستطيعون التنقل بسبب المراقبة الأمنية المشددة عليهم».
وإذا كان البعض، أو غالبية من السياسيين الأكراد، يعتبرون أن القتال في صفوف البيشمركة هو بمثابة تعميد للمناضل الكردي واستكمال لتاريخه السياسي، فإن برهم يعترف بقوله «أنا لم أقاتل مع البيشمركة، وهذا لم يكن اختياري بل اختيار الحزب، ففي عام 1979 شددت العناصر الأمنية من مراقبتها لي بسبب حراكي السياسي، لهذا طلبت من المسؤولين أن ينقلوني إلى الجبل حتى لا أتعرض للاعتقال، فجاء الرد بأن الحزب يحتاجك في مدينة السليمانية أكثر من وجودك بالجبل بسبب وضعي الاجتماعي كوني ابن الحاكم وابن عائلة معروفة، ولأنني كنت أوفر خدمات لوجيستية كثيرة من البيت، ثم إنني كنت مسؤولا عن منطقة (جوارتة) والإمدادات في منطقة (قره داغ)، إضافة إلى أدائي لمهمات تتعلق بمراقبة الأوضاع في المدينة».
إلا أن نشاط برهم السياسي لم يتحدد بمدينة السليمانية، بل تعداه إلى العاصمة بغداد، كما يوضح «في عام 1979، وفي عطلة نصف السنة، كنت في الصف السادس علمي، وبعد عودتي من بغداد إذ كنت مكلفا بمهمة حزبية لمتابعة بعض الطلبة الأكراد ولتشكيل خلية حزبية هناك، كما قمت بزيارة بعض زملائنا وأعضاء الحزب المعتقلين في سجن أبو غريب، حيث كان الكثير من رفاقنا معتقلين في قسم الأحكام الثقيلة وآخرون في قسم الأحكام الخفيفة، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت تجلب لي الشبهات فإن الالتزامات الاجتماعية والحزبية دفعتني للقيام بهذه الزيارة..».
مثل هذه النشاطات، الاجتماعات مع الطلبة الأكراد في بغداد، وزيارة السجناء السياسيين الأكراد الذين كانوا مودعين في سجن أبو غريب لم تكن خافية عن أعين السلطات الأمنية، إذ كان اسم برهم متداولا بين الأجهزة الأمنية في السليمانية وبغداد وبقية المدن الكردية، وكان أن وضع في دوائر الرصد الأمنية التي لم تكن تغفل حتى التحركات البسيطة فكيف الحال في فعاليات تشمل زيارة سجناء تصنفهم السلطات الأمنية وقتذاك بالخطرين على أمن الدولة؟ وكان متوقعا بالنسبة لبرهم وعائلته أن يتعرض للاعتقال في أي لحظة بعد عودته إلى السليمانية.. يقول «بعد عودتي من العاصمة تم اعتقالي في السليمانية، وكنا في البيت نتوقع هذا الاعتقال، إذ كان هناك أحد أقاربنا محكوما بالإعدام وينتظر التنفيذ في سجن الموصل، وقد زارته والدتي، وهمس أحد السجناء في أذنها بأن الأجهزة الأمنية عذبته وحققت معه للحصول على اعترافات عني وتدينني، وكان هذا مؤشرا مهما بأنني سأعتقل».
لكن هذا الإنذار لم يؤخر من نشاط برهم السياسي، أو حتى في أقل الاحتمالات يدفعه للدخول في هدنة بينه وبين نفسه لإبعاد أنظار الأجهزة الأمنية عن تحركاته، أو التفكير في الاختفاء المؤقت، لكنه على العكس من ذلك تماما.. يقول «في اليوم الأخير من العطلة كنت قد أخذت سيارة والدي ونقلت مع أحد الرفاق منشورات حزبية وأسلحة من أحد الأوكار لإيصالها إلى مكان آخر، فلاحظت أن هناك سيارة معروفة من قبلنا بأنها تابعة لدائرة الأمن تتابعنا، فحاولت الإفلات من المراقبة والعودة إلى البيت، وبسرعة أخفينا المنشورات والأسلحة، ولو كانوا قد ألقوا القبض علينا ونحن ننقل هذه الأسلحة والمنشورات لكانت العقوبة خطرة وقد تصل إلى الإعدام».
ترى هل كان الفتى برهم على موعد مع يوم اعتقاله؟ هل كان ينتظره؟ هل كان يريد تعميد نضاله السياسي السري الذي بات مرصودا ومعروفا من قبل الأجهزة الأمنية البعثية باعتقال يبارك فيه تاريخه أو استهلال تاريخه السياسي؟ لكنه لم ينتظر طويلا موعد اعتقاله الذي «تم في أول يوم لدوامي في المدرسة بعد نهاية العطلة الربيعية، وبالضبط في شهر فبراير (شباط) عام 1979، وكنت في الصف الدراسي عندما جاء ساعي المدرسة وقال لي إن المدير يطلبك، فذهبت إلى مكتب المدير، الأستاذ شوكت، وكان يبدو عليه القلق بوجود ثلاثة أشخاص في مكتبه، استطعت أن أميزهم بأنهم من منتسبي دائرة الأمن، فقال لي أحدهم (لدينا استفسار بسيط، ستأتي معنا لنصف ساعة فقط وتعود إلى مدرستك)، وطلبوا أن يأتي الساعي بحقيبتي المدرسية، كنت قلقا لأنني كنت أخبئ في جيب سروالي رسالة حزبية لففتها لتبدو مثل قطعة حلوى مغلفة، إذ كنت أفكر في طريقة للتخلص منها. وصلنا إلى دائرة الأمن ووضعوني في زنزانة وحدي قبل أن يتم تفتيشي بدقة، لأنهم لم يتوقعوا أنني أحمل أي شيء مهم أو خطير، لا سيما أنهم اقتادوني من الصف، وهناك تخلصت من الرسالة بطريقة ما».
ويؤيد أستاذه عزيز هذه الحادثة، قائلا «اعتقل برهم سنة 1979 بعد نهاية عطلة نصف السنة، وقد أحزننا ذلك من جهتين، الأولى أن أحد أبناء شعبنا والذي كان ضمن تنظيمات السليمانية للاتحاد الوطني الكردستاني معتقل، ومن الممكن ألا نراه مرة أخرى، والثانية أننا سنفقد طالبا ذكيا كان محل فخر واعتزاز لكردستان».
كان هذا التعارف الأول بين برهم والأجهزة الأمنية، اللقاء الأول عن قرب، وهو أيضا الاختبار الأول لقابليات صمود الشاب أمام وسائل القمع النفسي والجسدي على حد سواء.. يقول «بدأوا يحققون معي وقالوا لي إن لديهم معلومات دقيقة عن تحركاتي ونشاطي، وإن هناك اعترافات من سجناء هم رفاق لي وتدينني، ثم نقلوني إلى الهيئة التحقيقية الخاصة في كركوك، وكنا نعرف مدى الرعب الذي تشكله هذه الهيئة وهذا المكان الرهيب، وهو المكان الخاص بالتحقيق مع من يشكون في انتمائهم للثورة الكردية، حيث يضم أعتى أجهزة التعذيب وأكثرها قسوة».
ترى أي أفكار وصور خامرت الروح الغضة للفتى الذي يدشن خطواته نحو أقبية التعذيب في باستيل كركوك، والمعروف من قبل الأكراد بوحشية القائمين على وسائل التعذيب فيه، هؤلاء الذين لا تأخذهم أي رقة أو رحمة بالمعتقلين خاصة إذا كانوا من الأكراد ومهما كانت أعمارهم.. يتذكر بمرارة، قائلا «تعرضت للتعذيب القاسي. كانت تجربة مرعبة بالنسبة لفتى في الـ18 من عمره، تعلمت من هذه التجربة أن الشعور بالحرية أرقى ما في الوجود، وأنه لا أحد يشعر بهذه الحرية إلا من سلبت منه، وأن السجن يجعل الإنسان المعتقل لأسباب سياسية خاصة، أمام امتحان صعب وقاس، فإما أن يبقى محافظا على صلابته وقيمه ومبادئه ويرفض الاعتراف والوشاية بالآخرين، أو ينهار ويتخلى عن كل مبادئه»، خاصة إذا عرفنا أن هناك سياسيين كبارا انهار بعضهم أمام وسائل التعذيب وممارساتها، لكن برهم استجمع قواه الفتية، واستذكر معاناة أهله من الأكراد، وكان لا بد من صموده كي يخرج مفاخرا بنفسه، رافعا رأس والده ووالدته، ومحتفظا ببداية ناصعة لتاريخه السياسي.. يقول «استطعت أن أعرف إمكانياتي في التأقلم والتحمل، فعندما وصلت إلى بناية هيئة التحقيق الخاصة سألت نفسي: كيف سأتحمل التعذيب والإهانات والحرمان والوساخة والروائح القذرة المنبعثة من أقبية تتعفن بها الدماء والأجساد، وأنا ابن عائلة مترفة ومدلل ومتعود على نمط مترف من الحياة، لكنني تحملتها وتحديت الصعوبات والحمد لله، وهذه التجربة تعيش معي حتى اليوم إذ تعلمت منها كيف يجب أن أتعامل مع ملفات المعتقلين والسجناء سواء في بغداد أو كردستان، وأن أتابعهم وأضمن حقوقهم ولا أظلم أحدا».
والى جانب ذلك اكتشف برهم «أن هناك من يستمتع بتعذيب الآخرين بقسوة، إذ كانوا يضربون شيخا في الخامسة والسبعين من عمره أمامي، كانوا يضربوه بقسوة كل يوم ويستمتعون بالأنين الخافت المنبعث من روحه المتعبة».
ويشهد خبات الشيخ جناب، وهو أحد بيشمركة كردستان القدامى، على فترة اعتقال برهم صالح في معتقل الهيئة التحقيقية في كركوك. وتعود معرفة الشيخ جناب ببرهم إلى عام 1976 ويقول «كنا في مدرسة الخالدية عام 1976، وأتذكر أنه كان هناك عرض مسرحي بعد أيام من إعدام خاله شهاب، وكان برهم شابا وسيما يرتدي ملابس أنيقة ويجلس هناك، وفجأة نهض واقفا وردد شعارات حماسية، وسرعان ما هجم عليه المتنفذون وألغيت المسرحية، وخرجنا أنا وشوان (شوان رؤوف نوري الذي قتل فيما بعد) وحمة حسين (هو الآخر قتل على أيدي سلطات النظام السابق) من القاعة، وفي الطريق قال حمة حسين الذي كان يحب برهم كثيرا (لا أعرف لماذا يتصرف هذا الرجل - برهم - هكذا؟ لماذا يتسبب في سجنه؟) وبعد ذلك بأيام التحقت بالبيشمركة ولم أر برهم حتى عام 1978، ومن ثم في عام 1979 عندما كنت معتقلا في هيئة كركوك».
ويتحدث الشيخ جناب بكثير من التأثر عن هذه الفترة، قائلا «في هيئة كركوك كنا مع آزاد (قتل لاحقا) وكاك خالد (ابن أخت صلاح جاوشين) في زنزانة واحدة، ولم يكن عندنا من مشاغل أو أمل سوى أن ننظر من خلال بعض تشققات الجدار لنرى ما يحدث، أو من هو الزائر الجديد من المعتقلين. فجأة شاهدنا عناصر الأمن وهم يقتادون معتقلا جديدا وقد عصبوا عينيه بعد أن أذاقوه الضرب والتعذيب، وهم في طريقهم إلى باب زنزانته، وحين أمعنت النظر عرفت أن ذلك المعتقل ليس سوى ذلك الشاب الوسيم برهم صالح».
ويستطرد قائلا «كانت زنزانتنا قريبة من غرفة التعذيب لذلك كنت أسمع بوضوح صرخات الذين كانوا يُعذبون. على ما أتذكر فإنهم قد أخذوا برهم إلى غرفة التعذيب بين 6 إلى 7 مرات، وعذبوه كثيرا».
وأضاف الشيخ جناب قائلا «بعد فترة طويلة من بقائي في الزنزانة الانفرادية نقلوني إلى جانب السجناء الآخرين، ورأيت برهم صالح مرة أخرى فهو لم يعترف بشيء على الرغم من التعذيب الذي تعرض له، لذلك أعادوه إلى السليمانية».
ومن المواقف الطريفة التي ما زالت عالقة في ذاكرة شيخ جناب، رغم مرارتها، والتي حدثت خلال التحقيق معه في هيئة كركوك، يروي قائلا «في إحدى المرات جلبونا أنا والملا علي (قتل فيما بعد)، وبعد ضرب مبرح، إلى التحقيق، قلت للحاكم (سيدي أنا من أسرة شريفة ولم نقم في وقت من الأوقات بعمل سيئ)، فشتمني الحاكم وقال (ها هو ابن الحاكم أحمد - ويعني برهم أحمد صالح - يقوم بأعمال سيئة، وأنت تقول أنا شريف؟».
ويذكّر خبات الشيخ جناب بالدور المهم الذي كان يلعبه برهم، فيقول «لم يكن الدور الدبلوماسي الذي كان، ولا يزال يلعبه صالح، أقل من نضال البيشمركة في الجبال، لأنه استطاع أن يحصل للكرد على العشرات من الأصدقاء الذين كنا متلهفين إلى صداقتهم منذ سنين».
بدوره، يروي جمال محمد رشيد، المعروف بـ«جمال ديمقراط»، الذي كان منذ عام 1972 عضوا ناشطا في الكوملة (الكوملة تعني العصبة أو عصبة الماركسية اللينينية، ثم صارت عصبة كادحي كردستان)، ذكرياته مع برهم صالح قائلا «تعرفت إلى برهم عن طريق (خسرو عبه رش) الذي كان اسمه السري (جوتيار). كان برهم وقتذاك شابا نشيطا ومحبوبا. كنت خائفا عليه خلال تعرفي عليه، فقد ثقف نفسه جيدا من حيث الفكر، وكان مخلصا إلى أبعد حد بحيث كانت السيارات آنذاك قليلة وكان برهم ينقل بسيارة والده البيشمركة الذين يقومون بعمليات داخل المدينة في وقت كان فيه منزل عائلته بجوار دائرة أمن السليمانية».
ويضيف قائلا «كان لأسرة برهم دور رئيسي في تطور عمليات القطاعات داخل المدينة. أتذكر أنني ذهبت مرة إلى منزل عائلته ولم أكن أعرف أنه كان معتقلا، طرقت الباب ففتحت والدته، وقالت لي من دون أن يبدو عليها أي تأثر لحادث اعتقال ولدها (لماذا أتيت؟) قلت: أريد أن أرى برهم فقالت (لقد اعتقلوه. أما أنت فاذهب بسرعة واختف قبل أن يعتقلوك)»، منوها بصمود برهم في السجن، بقوله «على الرغم من كل ذلك التعذيب تحمل برهم بشجاعة ولم يعترف بشيء وبعد أن عرفوا أنهم لن يحصلوا منه على شيء، أطلقوا سراحه».
هذا أول الأحداث القاسية التي وشمت ذاكرة برهم وشما لم تستطع سنوات الحرية فيما بعد أن تمحوه.. يقول «كانت بناية الهيئة وسجنها يقعان ضمن معسكر خالد في كركوك، وقد زرتها في الأيام الأولى لتغيير النظام، وكانت قد تحولت إلى قاعدة للقوات الأميركية، لكنني لم أستطع تحديد موقع الزنزانة التي كنت فيها لأنهم كانوا يعصبون عيني. هناك يوم كنت نزيلا قسريا في هذا المكان سابقا».
يتحدث جمال علي أحمد عن تجربته مع برهم صالح في معتقل الهيئة التحقيقية في كركوك، قائلا «في الحقيقة لم أكن أعرف برهم عن قرب، لكنني كنت أعرف أسرته، حيث كان ابن الحاكم أحمد والسيدة روناك، وقد كانوا مهتمين بالثورة الكردية. وعندما اعتقلت عام 1979 وبعد التحقيقات الأولية في السليمانية نقلوني إلى هيئة كركوك، وعند وصولي عصبوا عيني وأدخلوني إلى غرفة، أتذكر جيدا أننا كنا في شهر مارس (آذار) وكان الجو باردا، وعندما دخلت الغرفة أحسست بهواء دافئ، سألوني باللغة العربية: ما اسمك وأين تسكن؟ فقلت، اسمي جمال، وقد أتيت بنفسي إلى هنا فضربوني على جبيني فوقعت، وعندما نهضت كان أول أسئلتهم لي هو: هل تعرف برهم؟ فقلت، لا أعرفه. وكنت لا أعرف أنه معتقل».
يستطرد قائلا «بعد ذلك نقلوني إلى زنزانة لم أكن أعرف فيها أحدا. وبعد أيام جاءوا وأخذوني إلى غرفة التعذيب وهناك علقوني وصعقوني بالكهرباء، فتبين لي أنهم إذا كرهوا شخصا يربطون قناني الغاز برجليه. سألوني مرة أخرى: هل تعرف برهم؟ قلت لا أعرفه. وبعد فترة غيروا غرفتي وتبين لي هناك أن برهم معتقل في الغرفة المجاورة».
يقول «في المرة الثالثة التي أخذوني فيها للتعذيب كنت مع برهم وكانت تلك المرة الأولى التي أراه فيها. في الحقيقة كان يتمتع ببنية جسمانية صلبة لذلك فقد كانوا يعلقونه ويضربونه أكثر مني، وحين يغمى علينا كانوا ينزلوننا ويعلقون رجلينا بعمود ويضربوننا بالكابلات بحيث لم نكن قادرين على النهوض فتتم إعادتنا إلى غرفنا سحبا. وقد ذقنا أنا وبرهم هذه الضربات لمرات كثيرة».
ويروي جمال قائلا «أتذكر أنني في إحدى المرات كنت أغسل وجهي فأشار إلي أحدهم من الغرفة المجاورة بيده من تحت الباب، فأشرت إليه أنا أيضا، فانهال علي الحراس بالضرب في ساحة السجن، وعندما أطلق سراحنا قال لي برهم صالح (كنت الشخص الذي يشير إليك بيده لأنني كنت أريد أن أعرف من هو هذا الشخص الذي يغسل وجهه بيد واحدة».
التجربة الثانية، المواجهة الثانية بين صالح والسلطات الأمنية ستأتي لاحقا، فحادثة اعتقاله والتحقيق معه في كركوك لم تكن الأخيرة، بل ستتبعها حادثة أخرى كادت تودي بمستقبله الدراسي والحياتي.. يقول «بعد أشهر قليلة من إطلاق سراحي من معتقل كركوك وعندما لم يجدوا عندي ما يريدونه من اعترافات، اعتقلت مرة أخرى حيث قضيت 43 يوما في ضيافة الأجهزة الأمنية وقتذاك، وعندما أطلق سراحي كان أمامي شهر واحد للتحضير لامتحانات البكالوريا النهائية وأنا في الصف السادس علمي، وقبيل الامتحان بأسبوع اعتقلت مرة ثالثة في الاستخبارات العسكرية، وكان اسم ضابط الاستخبارات الذي حقق معي هو النقيب عبد».
25/09/2010
في مفترق الطرق (1).. مذكرات الدكتور برهم صالح
من موقع سياسي إلى موقع آخر أعلى، يتنقل الدكتور برهم أحمد صالح، نائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكوردستاني الذي يتزعمه رئيس الجمهورية جلال طالباني.
ففي نهاية 2009 تم تكليفه من قبل رئيس إقليم كوردستان، مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكوردستاني، برئاسة حكومة الإقليم على خلفية فوز قائمة التحالف الكوردستاني في انتخابات الإقليم التشريعية. وترتب على ذلك مغادرته لمنصب نائب رئيس الحكومة العراقية الذي شغله مرتين. لقد ظهر صالح كسياسي عراقي عام 2003، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وباعتباره نائبا لرئيس أول حكومة في العراق الجديد، شكلها الدكتور إياد علاوي.
وكان صالح قد دشن حياته السياسية كمسؤول حكومي للمرة الأولى عام 2001 عندما كلفته قيادة حزبه برئاسة حكومة كوردستان في السليمانية، ثم نائبا لرئيس الحكومة العراقية، ووزيرا للتخطيط والإنماء في حكومة إبراهيم الجعفري عام 2005، فنائبا لرئيس الحكومة العراقية للمرة الثانية في حكومة نوري المالكي.
هذه المسؤوليات كانت تحديا لإمكانات المهندس الشاب، برهم صالح، الذي حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة كارديف 1983، والدكتوراه من جامعة ليفربول 1987، وكلتاهما في بريطانيا، في علوم الهندسة والإحصاء وتطبيقات الكومبيوتر، بينما خبرته العملية استندت إلى عمله مهندسا استشاريا لإحدى الشركات الأوروبية، وهذا ما منحه خلفيتين في العلوم والاقتصاد، ومكنه بالتالي ليكون مسؤولا ناجحا في كل المسؤوليات التي أنيطت به.
إلا أن صالح، الذي بدأ مشواره السياسي مع حزبه مبكرا، وهو ابن القاضي المعروف في السليمانية، أحمد صالح، كان دائما يجد نفسه وخياراته أمام مفترق الطرق، وكان يجتاز هذه المفترقات بنجاح اعتمادا على ذكائه الذي عرف به منذ كان طالبا في الدراسة. وعبر لقاءات أجرتها «الشرق الوسط» مع رئيس حكومة إقليم كوردستان، ما بين أربيل والسليمانية، تحدث إلينا صالح عن مفترقات الطرق التي مر بها في حياته.
على العكس من غالبية القادة السياسيين الأكراد، لم يولد برهم صالح، السياسي الكوردي ورئيس حكومة إقليم كوردستان سياسيا، من رحم الجبل. فهو لم يحمل بندقيته كمقاتل في صفوف البيشمركة متنقلا بين شعاب ووديان جبال كوردستان العراق. وفي اللحظة الحاسمة التي وجد فيها صالح نفسه عند مفترق طرق، وخيارات، أسهلها صعب للغاية على نفسه، اختار وبفضل ذكائه المبكر الذي عرف به منذ طفولته، أن يترك العراق لإكمال دراسته الجامعية ودراساته العليا في أوروبا، وبالذات في إنجلترا، غير هذا كان عليه أن يلتحق بالثورة الكوردية في الجبال، أو أن يستسلم لأجهزة امن النظام السابق. وباختياره هذا بشر هذا الشاب الذي عمل في السياسة وخاض غمار النضال من أجل قضيته الكوردية منذ فتوته، بولادة نمط جديد، ومتطور من القادة السياسيين الأكراد، نمط عرف كيف يجمع بين التفوق العلمي والعمل السياسي. فهو لم يضح بإنجازاته العلمية والدراسية على محراب السياسة، كما لم يهدر تاريخه السياسي والإيمان بقضية شعبه من أجل العلم والمعرفة التي وظفها لتطوير قدراته القيادية التي ستميزه لاحقا.
ولعله السياسي الكوردي الوحيد الذي أمسك بمهارة تفاحتي العلم والعمل السياسي بيد واحدة، هاتان الصفتان امتزجتا في شخصية موهبتها القيادة والحضور، الحضور الذي أوجد في الساحة السياسية العراقية ظاهرة النجم السياسي من غير أن يسعى أو يخطط لها، فأينما وجد، خاصة بين طلبة الجامعات، تجد الشباب يتحلقون حوله لالتقاط صورة تذكارية معه، أو الحصول على توقيعه، مع أنه يتعامل مع هذه الظاهرة بروح متواضعة، بل وخجولة في أغلب الأحيان.
حياته المهنية والسياسة ستتميز فيما بعد بعدد من مفارق الطرق، والخيارات التي حسم ما فات منها بنجاح ومهارة مزجت بين ما هو علمي وسياسي وإنساني، وهو يأمل أن يحسم ما سيأتي لاحقا بذات الطريقة.
ولعل حياته العاطفية، أو العائلية، المحطة الفارقة الوحيدة في تاريخه التي وجد نفسه فيها أمام طريق، أو خيار واحد لا ثاني له، ذلك عندما التقى المرأة التي قرر أن تكون شريكة حياته ودربه منذ المرة الأولى، وهو اختيار لم تتدخل فيه الحسابات العلمية، ولا المفاجآت السياسية، ونجح فيه بفعل انتصار العاطفة وهواجسها.
وإذا كان برهم صالح، كشخصية سياسية، قد تسلسل في ظهوره في بيئته الأصلية، كوردستان، وبالذات في مدينته السليمانية منذ عام 1991، فإن هذه الشخصية الظاهرة كانت مفاجئة جدا، وللغاية بالنسبة للعراقيين ككل وذلك عندما انطلق كسياسي عراقي من بغداد بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003، إذ وجد السياسي الكوردي الشاب، غير المعروف شعبيا على مستوى العراق، نفسه في خضم أحداث سياسية هائلة تتلخص بتغيير نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، هذا النظام الذي عرف على مدى أكثر من ثلاثة عقود بشموليته، ومغامراته التي غيرت أحداثا محلية وعربية وأثر بأخرى عالميا. يضاف إلى ذلك أن هذا التغيير لم يأت بفعل وطني، أي ليس من قبل فصائل عراقية بل بفعل احتلال القوات الأميركية للعراق، وهذا ما يعطي الأحداث بعدا تراجيديا خطيرا يتطلب وجود قادة وسياسيين كبار لهم مراسهم الصعب مع العمل السياسي وعبر تجارب تاريخية جبارة. وبين هذه القيادات التاريخية والمعروفة من خلال عملها في المعارضة العراقية، كان حضور صالح، ترى هل كان حضوره هذا، في زمان ومكان معينين، قدريا؟ أم مخططا له؟ أو أنه كان على موعد مع فرصته التاريخية التي سوف يشغلها بكل مساحاتها الجغرافية والعملية ليؤسس له حضوره المناسب واللائق به.
وفي خضم هذه الأحداث وبين هذه الشخصيات تألق نجم السياسي الشاب برهم صالح، وسرعان ما عرف كقائد سياسي عراقي أكثر منه كورديا، ومع أن الفرصة التي أتيحت له كانت قد أتيحت، وربما بقدر أكبر لغيره من السياسيين العراقيين، فإن بعضهم غابوا في ظل الشخصيات القيادية الأخرى، أو ذابوا في محاليل أحزابهم أو مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم.
لكن برهم صالح لم يستظل بالوجود الكبير لقائده السياسي والقومي جلال طالباني الذي دعم ظهور وتقدم صالح، بل استفاد من خطى وتجارب قائده المحنك، وبقي على مسافة تحفظ قامته بوضوح، ولم يتحلل في سيادة المشاعر القومية الكوردية، على الرغم من أنه كوردي وابن عائلة كوردية عريقة، بل بقي يُذكر العراقيين ومن خلال لغته العربية السليمة جدا والمشوبة بلهجة جنوبية، بأنه عراقي مثله مثل عراقيي البصرة أو النجف أو الأنبار أو ديالى، وأنه ابن بغداد التي بادلها مشاعر الحب، مثلما هو ابن السليمانية، والأهم من هذا وذاك هو أن المناصب التي تقلدها في الحكومة العراقية، على أهميتها، لم تبن حاجزا بينه وبين الناس، سواء في إقليم كوردستان، أو في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى.
وإذا أردنا أن نتحدث عن وعود العراق الجديد في الديمقراطية، والحرية، وبناء عراق اتحادي يتسع لجميع مكوناته وأطيافه الدينية والقومية والسياسية، فإننا سنؤشر وبوضوح، بروز برهم صالح كسياسي عراقي، وباعتباره واحدا من أبرز وجوه العراق الجديد، عراق ما بعد 2003.
على الرغم من أن برهم صالح ولد، عام 1960، في عائلة ميسورة، فإنه لا يتذكر أي بقايا طعم ملعقة من ذهب كانت في فمه، فهو «من أسرة الحاج صالح قاسم من أبيه ومن أسرة ساحبقران من أمه، وهما أسرتان وطنيتان، وعريقتان من مدينة السليمانية»، ويشار إلى والده أحمد صالح باعتباره كان قاضيا عادلا ونزيها، ومناضلا سياسيا، بينما عرفت أمه كونها ناشطة نسائية عرفت بمواقفها الصلبة. يسترجع برهم صالح الأوراق الأولى من دفاتر حياته، فيقول: «أنا ترعرعت في عائلة مسيسة أصلا، والدي كان قاضيا ووالدتي سياسية أو مسيسة حيث كانت ناشطة فاعلة في مجال العمل النسوي، والجو العام في مدينة السليمانية كان وقتذاك مسيسا بسبب الاضطهاد الذي كان يعانيه الكورد».
يفيد صالح قائلا: «ولدت عام 1960 في بيت جدي في محلة (برخانه قا) إذ حولت العائلة البيت الذي ولدت فيه إلى دار للعرض السينمائي، واليوم تحولت السينما إلى مركز تجاري (مول)، وكان عمري خمس سنوات عندما انتقلنا من هذا البيت الذي أتذكره، حيث كان طرازه شرقيا، بيت واسع تتوسط فناءه الداخلي نافورة وحديقة، ومفتوح على الفضاء، وانتقلنا إلى بيتنا الجديد وقتذاك في محلة شورش في السليمانية والذي ما تزال والدتي تقيم فيه وكنت أنا أقيم فيه إلى وقت قريب».
ولا يخفي صالح أنه ولد في عائلة ميسورة، «العائلة كانت ميسورة، والدي رحمه الله كان قاضيا ومن عائلة تملك عقارات ووالدتي تنحدر من عائلة متوسطة».
عرف عن الفتى برهم تفوقه الدراسي، كما ذكر أستاذه فهمي أمين عزيز، الذي عمل لـ41 عاما في مجال التربية وخدم لمدة 38 عاما كمدرس ومدير مدرسة شورش التي كان قد درس فيها الطالب برهم، وكما تؤكد والدته، وهو ينسب تأثير والده في تفوقه العلمي، يقول «الأثر الكبير في تفوقي يعود إلى والدي وهو خريج كلية الحقوق في جامعة بغداد عام 1952 والذي كان يهتم كثيرا بدراستي وتوجيهي للقراءة وقد كنت متفوقا منذ السنة الأولى التي دخلت فيها إلى المدرسة، إضافة إلى أن والدي كان يحثني ويشجعني على قراءة الكتب غير المدرسية وكان كثير السفر إلى بغداد وغالبا ما كانت هداياه لي عبارة عن كتب باللغة العربية ومن هنا كان اهتمامي مبكرا بهذه اللغة».
للطبيعة أثرها في نشأة برهم الذي أمضى سنوات طفولته الأولى في منتجع شقلاوة التابع لمحافظة أربيل، وهو مصيف يختبأ في واد بين الجبال الشاهقة، ومؤثث ببساتين الكروم والتوت والجوز والمشمش.
يقول: «دخلت المدرسة الابتدائية في مدينة (منتجع) شقلاوة حيث كان والدي قاضيا فيها، ودرست باللغة الكوردية، ولي ذكريات جميلة عن هذه المدينة التي تختفي بين البساتين ومزارع الكروم، وهي واحدة من أجمل المصايف في كوردستان، وبقيت في هذه المدرسة حتى السنة الثالثة، وقد شجعني والدي في تلك الفترة على الاهتمام بالثقافة الكوردية وقراءة الشعر الكوردي إلى جانب تشجيعه لي على دراسة اللغة العربية لهذا انتقلت بعد السنة الثالثة إلى مدرسة عربية في مدينة السليمانية».
عرف عن والده تمسكه بمبادئه التي لم يهادن عليها، فهو ضحى بعمله السياسي من أجل القضاء الذي عمل في حرمته إذ لم يكن له أن يجمع بين القضاء ونزاهته وبين تأثيرات السياسة والأحزاب، يوضح برهم قائلا: «كان والدي سياسيا وتخلى عن العمل الحزبي لممارسة القضاء لكنه بقي مهتما بالقضية الكوردية، وكان عليه أن يتحمل التحديات باعتباره قاضيا، وأن لا يخضع للضغوط الأمنية، لهذا تحمل النفي والضغوطات الكثيرة، وأتذكر أنه غالبا ما كان يردد أن أكبر خطأ ارتكبناه هو أننا تظاهرنا ضد الحكم الملكي وكان يتحسر على العهد الملكي، وأن آمالنا في أن يحترم العهد الجمهوري القضاء والقوانين انهارت بسبب تدخل الجيش بالسياسة والقضاء وتوالي الانقلابات والكوارث على البلد». ومن يتتبع الحياة الاجتماعية لبرهم صالح سوف يتأكد أن طبيعته لم تتغير منذ طفولته، فهو اليوم ما يزال محبا لأصدقائه، وحريصا على تكوين علاقات اجتماعية متميزة تماما مثلما كان في طفولته.
وبدوره يتحدث صالح عن هذه الطفولة اعتمادا على ما سمعه من والدته، فيقول: «حسبما تذكره لي والدتي فإنني في طفولتي لم أكن مشاكسا بل اجتماعيا ولي عدد كبير من الأصدقاء على عكس الطلبة المتفوقين في دراستهم والذين ينصرفون إلى الدراسة فقط، وكنت أحب أن ألعب وألهو مع أصحابي. وحسب بعض أساتذتي فإني كنت طالبا هادئا حتى الدراسة المتوسطة إذ تغيرت الصورة إلى طالب يتحرك كثيرا ولا يعرف الهدوء».
وإذا كان غالبية من الناس يشيرون إلى ظواهر جغرافية أو أحداث اجتماعية أو متغيرات تاريخية تقترن بوعيهم الحياتي، فإن صالح يقرن هذا الوعي بحدث سياسي كاد أن يكون مهما ومغيرا في تاريخ العراق: «ارتبط وعيي السياسي مع التوقيع على اتفاقية 11 مارس (آذار) 1971». أو ما تسمى باتفاقية الحكم الذاتي للأكراد التي تم توقيعها بين الحكومة العراقية والزعيم الكوردي الراحل ملا مصطفى بارزاني، وفيها اعترفت الحكومة العراقية بالحقوق القومية للأكراد مع تقديم ضمانات لهم بالمشاركة في الحكومة العراقية واستخدام اللغة الكوردية في المؤسسات التعليمية، ولكن لم يتم التوصل إلى حل حاسم بشأن قضية كركوك التي بقيت عالقة في انتظار نتائج إحصاءات لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في هذه المدينة. وقد تم التخطيط لإجراء تلك الإحصائية المهمة عام 1977 ولكن اتفاقية مارس كانت ميتة قبل ذلك التاريخ حيث ساءت علاقات الحكومة العراقية مع بارزاني وخاصة عندما أعلن الزعيم الكوردي رسميا حق الأكراد في نفط كركوك. واعتبرت الحكومة العراقية إصرار الأكراد بشأن كوردية كركوك كإعلان حرب وهذا ما دفع الحكومة العراقية في مارس 1974 إلى إعلان الحكم الذاتي للأكراد من جانب واحد فقط دون موافقة الأكراد الذين اعتبروا الاتفاقية الجديدة بعيدة كل البعد عن اتفاقيات سنة 1970 حيث لم يعتبر إعلان 1974 مدينة كركوك وخانقين وجبل سنجار من المناطق الواقعة ضمن مناطق الحكم الذاتي للأكراد، بل إن الحكومة العراقية ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما غيرت الاسم التاريخي لمحافظة كركوك إلى محافظة التأميم.
لقد سبق الوعي السياسي لصالح تدشينه للعمل السياسي الفعلي وهو في الرابعة عشرة من عمره، «مع انتسابي إلى اتحاد طلبة كوردستان في السليمانية عام 1974 أي عندما كان عمري 14 سنة، وكان العمل في هذه المنظمة سريا بسبب القتال الذي اندلع بين مقاتلي الثورة الكوردية والقوات الحكومية، وقد التحقنا في ذات العام بوالدي الذي كان عضو محكمة الاستئناف في الإدارة الكوردية التي شكلتها الحركة الكوردية عام 1974 في منطقة حاج عمران وقد ذهبنا كلاجئين إلى مدينة ناغدة في إيران».
يدلي معلمه عزيز، بشهادته عن هذه الفترة، يقول «في الثورة الكوردية عام 1974 فرت مئات الأسر من كوردستان إلى الحدود» وكانت أسرة الحاكم أحمد، والد الدكتور برهم إحدى تلك الأسر، مستطردا: «ويظهر ذلك جليا أن برهم ذا الـ14 عاما تعرف إلى أجواء الثورة الكوردية والدفاع عن الحقوق المشروعة للكورد منذ وقت مبكر للغاية وانغمست هذه الفكرة في روحه الغضة بسبب أفكار والده الوطنية».
لكن الثورة الكوردية التي كانت تواجه بمقاتليها (البيشمركة) وبأسلحتهم المتواضعة جيوش الحكومات العراقية المتعاقبة، انهارت في مجابهة تعاون قوة دولتين لإجهاضها، العراق وإيران وذلك من خلال توقيع اتفاقية الجزائر من قبل شاه إيران محمد رضا بهلوي وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي وقتذاك والتي تنازل فيها العراق عن الكثير من حقوقه في الأرض والمياه من أجل توقف إيران عن دعم الثورة الكوردية ومحاصرتها.
يقول صالح: «في عام 1975 وبعد انهيار الثورة الكوردية بسبب اتفاقية الجزائر عدنا إلى السليمانية وانتميت إلى منظمة سرية، لم تكن توجهاتنا واضحة لكن كل واحد فينا كان يبحث له عن دور لمقاومة النظام الذي كان يحكم باستبداد وبقوة الحديد، حتى وجدت نفسي في انتمائي إلى التنظيمات السرية للاتحاد الوطني الكوردستاني في أواخر 1976، أي بعد عام من تأسيسه، بزعامة جلال طالباني، بدافع العمل من أجل تحرير العراق وكوردستان وإنهاء الحكم الفاشي».
ويدلي مدرسه عزيز بمعلومة عن هذه الحقبة، قائلا: «كما سمعنا، فإن برهم التحق بصفوف الاتحاد الوطني الكوردستاني عام 1976، ولكن كان ذلك بحسب علمي بعد عودتهم إلى كوردستان، لأنه التحق بمدرستنا. وكان من أذكى طلابنا».
بالتأكيد لم يكن الفتى برهم يفكر وقتذاك، وهو ابن الرابعة عشرة من عمره، في أنه سيكون قائدا سياسيا من طراز خاص عندما راح يعمل بجد في العمل السياسي، وهذا العمل لم يكن مجرد لعبة بل كان مغامرة خطرة، ففي حمأة بطش السلطات الأمنية وقتذاك كان يمكن أن يفقد حياته، على الرغم من أنه كان يمكنه أن يهنأ بحياته الميسورة، لا سيما وهو الولد الذي يفترض بأنه كان مدللا في عائلته، وكان يمكنه أن يختار مغامرة أو لعبة أكثر أمنا واطمئنانا لا سيما أنه يعرف ويدرك بوضوح نتائج ما هو ذاهب من أجله، لكن المسألة بالنسبة له ولدت كفكرة نضالية من أجل ناسه وأهله، يقول: «كانت أجواء العنف هي الغالبة فلم يكن في الحسبان تبوء منصب سياسي حكومي في المستقبل بأي شكل من الأشكال. وكشاب يافع لم يكن عندي سوى الدافع الثوري الوطني لا سيما أن قسما من زملائي الذين التحقوا بالثورة الكوردية استشهدوا وقسما آخر تم اعتقالهم وتعذيبهم».
وهذا لا يعني أنه كان مجردا من أي طموح سياسي، يقر قائلا: «لا أريد أن أقول إنه لم يكن عندي طموح قيادي، وهو طموح مشروع لكل سياسي، ولكن الطموح الأهم والأكبر كان هو التفاني في خدمة الثورة والمقاومة والقضية»، مستدركا: «لم يكن عندي طموح لأن أكون في هذا الموقع (رئيسا لحكومة إقليم كوردستان) ولا في المواقع السابقة التي تبوأتها».
الظروف السياسية هي التي رافقت مقادير الفتى برهم، وهذه الظروف هي التي رسمت له واقعه الراهن، وشكلت درب مستقبله، وكانت في مقدمتها قضيته الكوردية وقضية أهله وناسه، وشاءت الصدف أن تتلاءم هذه الظروف مع الفترة العمرية التي يمر بها، وهي سنوات المغامرة واكتشاف الذات والتحدي من غير حسبان عواقب ما سيجري، والشعور بالتمايز والتفوق وكأن التفوق الدراسي لم يكن كافيا لإشباع ذاته الطموحة. يقول: «أول حدث سياسي واجتماعي كبير أتذكره هو اتفاقية مارس التي غيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية في كوردستان، إذ تميزت السنوات ما بين 1972 و1973 بالحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، وهي فترة رائعة آنذاك، وكنت في السليمانية وقد شجعت هذه الظروف الكثير من شباب جيلي، وأنا من ضمنهم، على العمل السياسي المبكر».
ومرة أخرى يجد برهم نفسه أمام مفترق جديد يجبره على أن يغير خططه ودروبه، لكنه مفترق سوف يزيد من إصراره على مواصلة طريقه في العمل السياسي، بل ويتناسب مع تطلعاته في خدمة الثورة الكوردية، ففي «عام 1974 انتقل والدي إلى أربيل، والعراقيل التي رافقت تطبيق اتفاقية آذار أدت إلى أن يلتحق والدي بالثورة كإداري مع صالح اليوسفي ولم يكن ضمن قوات البيشمركة، بل اشتغل على تأسيس الإدارة الكوردية وصار رئيسا لمحكمة الاستئناف حيث كانت هناك إدارة في الجبل، ونحن العائلة عدنا إلى السليمانية لأن الأوضاع صارت صعبة في أربيل ومن هناك التحقنا بوالدي ومن ثم إلى مدينة (نغدة) الإيرانية وبعد عام انهارت الثورة الكوردية، وفي عام 1975 عدنا مع والدي إلى السليمانية فتم نفي والدي إلى مدينة السماوة حتى عام 1979»، موضحا: «نحن لم نذهب مع والدي إلى السماوة بل بقينا في السليمانية».
لم يؤثر نفي السلطات الأمنية في السليمانية لوالده على النشاط السياسي لبرهم، بل على العكس من ذلك زادته هذه الحادثة إصرارا وإيمانا وثقة بما كان يقوم به، والأكثر من هذا صعد من نشاطه السياسي من غير أن يتنازل عن تفوقه الدراسي، بل كان تفوقه في المدرسة سلاحه في لدفاع عن نشاطه السياسي، يتذكر قائلا: «في عام 1976 نشطت في العمل السياسي السري وكنت أتحرك كثيرا واقرأ، من غير أن أتهاون مع نفسي في دراستي، وهذا ما جعل والدي يقلق علي إذ كان يتابع نشاطي السياسي وتحركاتي عن قرب بواسطة الأقارب الذين يبلغونه بهذه التحركات وتلك النشاطات السياسية، وكان قلقا مما كان يعتبره تحديا للبعثيين، وكانوا (أقاربي) يفعلون ذلك انطلاقا من حرصهم على حياتي فالأجهزة الأمنية البعثية كانت قاسية للغاية ولا تميز بين نشاط وآخر، أو بين شاب وشيخ، لكن والدي كان يعرف أني متفوق في الدراسة على الرغم من نشاطي السياسي وهذا ما كان يبرر لي مواقفي وأنشطتي».
وكأنه أراد، برهم، أن يختبر التصادم الأول بينه وبين الأجهزة الأمنية وقتذاك، وأن يرحل نشاطه السياسي إلى مرحلة المواجهة، يتذكر: «حدث في بداية عام 1977 أنه كان هناك مهرجان طلابي خطابي، فرشحت من قبل مدرسة شورش للمشاركة في هذا المهرجان وقدمت كلمة عن فلسطين وأشجار الزيتون، لهذا سهل القائمون على المهرجان، وخاصة الاتحاد الوطني لطلبة العراق، البعثي، مشاركتي، لكنني عندما وصلت إلى المنصة غيرت اسم فلسطين أينما وردت في الخطابة إلى كوردستان، وبدلا من شجرة الزيتون ذكرت شجرة البلوط، فتلقى الحضور الكلمة بالتصفيق والترحاب، وكنت أنظر إلى مدرس اللغة العربية الذي رشح خطابتي للمشاركة وقد غرق في عرقه خشية من النتائج، وما أزال أتذكر المشهد حتى اليوم، بينما كان مدير النشاط المدرسي في مديرية تربية السليمانية، وهو خال والدتي يشير إلي لمرات عدة بالنزول وترك المنصة والتوقف عن إكمال إلقاء الخطابة، لكنني أكملتها وسط هياج الجمهور، وما إن انتهيت من خطبتي حتى سارع مسؤول الاتحاد الوطني الكوردستاني إلى إخراجي من القاعة، ولولا خشية البعثيين وقتذاك من حدوث مصادمات بينهم وبين الطلبة الأكراد الذين تحمسوا لكلمتي لتحولت إلى واقعة لا تحمد عقباها، مثلما يقال».
لكن هل يمضي مثل هذا الحدث من دون أي نتائج، خاصة أن البعثيين كانوا يتربصون بمثل هذه اللقطات في المشاهد اليومية في المدن الكوردية، فالقصة لم تنته عند خروج برهم من القاعة وغيابه عن أنظار عناصر الطلبة البعثيين ورجال الأمن الذين ذهبوا إلى بيت عمه باعتباره ولي أمره في غياب والده، يقول: «عناصر الأمن البعثية ذهبت إلى بيت عمي بحثا عني لأن والدي لم يكن موجودا في السليمانية وقتذاك، بينما أنا عدت إلى بيتنا، فاقتادوا عمي إلى دائرة الأمن وأخذوا منه تعهدا بعدم تكراري ذلك».
وضعت حادثة المهرجان الخطابي برهم تحت مجهر السلطات الأمنية التي أدرجت اسمه في برامج مراقبتها له، وحسبما يوضح: « بدأت السلطات الأمنية تراقبني كونها أدركت أني على صلة أو عضو في تنظيمات سرية، وخشي أقاربي علي من هذه النشاطات التي كانت تعرف بها والدتي فهي لم تكن تشجعني خوفا علي من بطش الأجهزة الأمنية لكنها كانت تساندني».
معد فياض: الشرق الأوسط
13/09/2010
ملاحظة
أکذب الکذابين
يحکى في قديم الزمان و سالف العصر و الاوان، أن ملکا کان مغرما بغرائب الامور و عجيبها، وکان دوما يبحث عن طرق متباينة لکي ينال مبتغاه، وذات مرة، تفتقت ذهنه عن فکرة جديدة حيث أعلن بأنه سيدفع مبلغ کبير من المال لمن يقول أمامه کذبة استثنائية لايتقبلها العقل لکن في حالة عدم تقبل الملك للکذبة فإن حياة الراوي ستکون الثمن، وطبعا هل الکذابون او الحالمين بنيل الجائزة من کل صوب و حدب خصوصا وان الحياة في ذلك البلد کانت مصداقا لبيت الشعر القائل:(ألا من موت يباع فأشتريه فهذا العيش مما لاخير فيه، وألقى کل واحد منهم أمام الملك مافي جعبته من کذبة، لکن الملك لم يکن يقتنع بأي منها وظل يستمع للمزيد منها بدون جدوى، حتى جاء ذات يوم رجل رث الثياب قادم من المجاهيل وقد أضناه التعب و الجوع و طول السفر وطلب السماح له بإلقاء کذبته في حضرة الملك، ولم يسمحوا له بالدخول إلا بعد أن نشبت بينه و بين حراس باب القصر الملکي مشادة کلامية وصلت الى أسماع الملك الذي أمر بإدخاله و اوضحوا له بأن حياته ستکون الثمن لو لم يقتنع الملك بکذبته، غير أن الرجل بادر الملك باسلوب ماکر بأنه واثق من نفسه لأنها حکاية حقيقة جرت له، وهنا أثار إنتباه و فضول الملك الذي أمره بأن يروي حکايته فقال الرجل وهو يتصنع الالم و المرارة: الحکاية بدأت عندما غادرت ذات يوم مدينتي يوم إنهار و تلاشى حلم حياتي بعد أن تزوجت الفتاة التي أحبها من رجل آخر، نکاية من أهلها بي، فقررت أن أغادر المدينة وأهيم على وجهي أملا في أن أعود وقد تبدلت حالي الى أحسن حال واجعلهم يندمون على ماأقدموا عليه معي، و بقيت أجوب السهول و الصحاري و الوديان و الجبال و الممالك المختلفـة وصادفت من الوحوش و الکواسر الکثير الکثير والحمدلله فتکت بها قبل أن تفتك بي، وذات يوم وصلت الى غابة عرفت من عابري السبيل أن اسمها غابة الموت قالوا أن هناك ثمة أسد شرس فيها لم يتمکن منه أقوى و اشجع الفرسان حيث کان نصيب کل من يقارعه الالتهام، لکنني وانا على تلك الحالة من اليأس و القنوط، صممت على المضي قدما للقاء هذا الاسد المزعوم، وفعلا وجدت نفسي فجأة أمامه و هو يزأر بصورة تصم الاذان و تلقي الرعب في القلوب، وعلى الرغم من إحساسي بالخوف الشديد لکنني تمالکت نفسي و بادرته بالهجوم و تشابکنا معا وفي الوقت الذي أدماني بمخالبه و قطع جانب من کتفي بأنيابه، لکنني تمکنت من غرز خنجري في خاصرته لکن للأسف البالغ کان خنجري صغيرا ولم يٶدي غرضه المطلوب ولاسيما وانه قد ضاع بين وبره الکثيف فبقيت من دون سلاح ولاأعلم ماذا أفعل حيال الوضع الجديد، وظل الرجل يتحسر و هو يشهق بقوة فسأله الملك: حسنا أيها الرجل وماذا جرى بعد ذلك؟ فقال له الرجل: ياجلالة الملك هي ليست حزورة وان المسألة واضحة کالشمس! فتعجب الملك أکثر وقد تملکه الفضول لمعرفة بقية الحکاية عندما أمره بشکل قاطع بقوله: هيا أخبرنا ماذا جرى تحديدا؟ فقال الرجل ببرود: الحقيقة يا جلالة الملك وبعد أن لم يعد في يدي سلاح لأقتل به الاسد فقد سنحت له الفرصة المطلوبة و إلتهمني! وهنا صاح به الملك: ويحك أيها الرجل، کيف إلتهمك وانت حي ترزق أمامي! فأجابه الرجل بهدوء کامل: حي؟ وهل تسميني حيا و تعتبر حياتي حياتا؟
الرجل نال الجائزة طبعا لأن الکذبة کانت من القوة بحيث أقنعت الملك، لکن، هذا کان في قديم الزمان و سالف العصر و الاوان وحتى أذکر انني قد سمعت هذه الحکاية في أيام طفولتي في الستينيات من الالفية الماضية، فکيف حالنا مع هذا العصر، مع مختلف الدول و الممالك، مختلف الاحزاب و الساسة، ملوکا و رٶساءا، طبعا اليوم لايحتاج اي زعيم او ملك او رئيس ليجهد نفسه بإحضار أناس لکي يلقون أمامه کذبات کي يقوم بإنتقاء أکذبها، ذلك أن الکذب في هذا الزمن قد صار حرفة حساسة من إختصاص نخب حاکمة في بلدان شرقنا المتخم بسرطانات الحکم الابدية، الکذب المنمق و المزرکش و المغطى بکل أنواع الزخارف و المحشي بمختلف أصناف الطلاسم و الاحاجي، هو ذلك الکذب الذي يصدر من الاوساط الحاکمة لکن، لکل مقام منها مقال، فکذب المسٶول الصغير تکون کذبة عادية قد لاتنطلي على الناس، والمسٶول الاکبر منه تکون کذبته أقوى من ناحية الحبکة و قوة الاقناع، أما لو وصل الامر الى الوزير، فإن کذبته تکون ذات أبعاد ضبابية کثيفة جدا بحيث يصعب من خلالها الرٶيا، لکن، لو وصلنا الى الحاکم بأمر الله، أيا کان، فإن الکذبة هنا ستختلف شکلا و مضمونا، ستصبح کذبة من القوة بحيث أن من صاغها و من نسبت له، يصدقانها و يٶمنان بها کحقيقة لاجدال فيها، الکذب هنا سيصبح أمرا مختلفا، أنه السبيل و الطريقة المثلى لتسيير امور الرعية، وقطعا فإن علماء الزور من أولئك الذين توجد تحت عماماتهم ألف شيطان و شيطان، يقومون بتبرير کذبات اولياء نعمتهم فيسمونها دجلا و بهتانا کذبات بيضاء الغاية منها اصلاح أمور الرعية و إرشادهم لما فيه خيرهم و صلاحهم.
قالت العرب: أجمل الشعر أکذبه، والكذب هنا المبالغة في الوصف و الاطراء کما قال المتنبي ذات يوم:
أي مکان أرتق أي عظيم أتق
وکل ماخلق الله ومالم يخلق
محتقر في همتي کشعرة في مفرقي
المتنبي يعلم قبل غيره أنه يکذب في کلامه لأن فيه مبالغة لايصدقها العقل أبدا سيما عندما يأخذه الزهو و الاعتداد بنفسه الى حد الاطلاق وهو أمر يعلم أي متلق لهذا الشعر بأنه أبعد مايکون عن الحقيقة و الواقع، لکن، في بلداننا، أعظم الساسة و ادهاهم أکذبهم، وانجح السياسات و أمضاها تلك التي تستند على بلاطات من الکذب، وطبعا ليس الکذب حکر او حصري ببلدننا و حکامنا وانما هو مباح لکل عابر سبيل في أرض الله الواسعة، لکن، المشکلة أن الکذب في بلدان الکفر و الالحاد و الفسق و الفجور، له حدود و معالم معينة وليس بالامکان أبدا جعله على وجه الاطلاق، أما عندنا، فبإمکانك أن تقول أنه وکما يقول العراقيون:(جيب ليل و خذ عتابە)، أي له بداية من دون نهاية، أي کذب بلا حدود، کذب لايقف أمامه شئ، وهنا أود أن أذکر کلاما لزميل هو الان في دار الحق بهذا الخصوص عندما أکد لي بأن الکذب لو تجلى ککائن حي في الشرق لأصابه الذهول و خر على رکبتيه مذعنا أمام کذب هٶلاء الحکام الذين صاروا بحق هم الاولى بحرفة الکذب و صناعتها واعلن برائته من الکذب.